مجموعة الخير

كنت قد كتبت عن بعض المشاهد من أيام الإحتلال البعثي الآثم لوطننا العزيز في ذكرياتي مع أخي العزيز وأستاذي الفاضل المغفور له محمد خضير حبيب (نم قرير العين يا بومصعب فالآخرة خير لك وأبقى)، وكذلك في ذكرياتي للدور الذي قام به أعضاء لجان حملة كاظم عبد الحسين (حملة التوحيد الكويتية) أثناء الاحتلال الصدامي الآثم للكويت في 2 أغسطس 1990م بتقديم الخدمات بمستشفى مبارك تحت عنوان (التوحيد في مستشفى صدام) ، وكلاهما نشرا في هذا الموقع المبارك (شبكة البشائر الإسلامية) .

هذه الذكريات لا تخصني شخصياً فقط وإنما تخص مجموعة الخير وهي مكونة من شباب أنا أحدهم، فمنذ بداية الثمانينيات حققت هذه المجموعة إنجازات كثيرة سواء على المستوى التطوعي أو الخيري أو على المستوى الوطني، وما كانت هذه الإنجازات تتحقق لولا بركة الله عز وجل ومن ثم وحدة الهدف وإخلاص النية والتفاني في العمل والانسجام في المنهجية، وكان لهذه المجموعة اجتماعات أسبوعية مساء كل سبت في ديوانية الأخ العزيز سامي محمد العلي في المنصورية.

وهذا لا يعني أن هذه الإنجازات التي حققتها المجموعة لم يشارك فيها آخرون، بل شارك في إنجازها أخوة أعزاء ارتبطت مع هذه المجموعة بأواصر الأخوة والمحبة ووثقت بها وانسجمت معها في المنهجية، وإنما كانت هذه المجموعة هي القلب والمحور لهذا الإنجازات.

من الإنجازات التي حققتها هذه المجموعة المباركة وساهمت في نشاطاتها على سبيل المثال لا الحصر..

-          مخيم الهُدى

-          حملة التوحيد الكويتية (كاظم عبدالحسين محمد)

-          حملة السلام (جواد العطار)

-          حملة الإيمان (عيسى عبد الله، حبيب المهنا)

-          حملة عبدالرضا غضنفر

-          مؤسسة أهل البيت (ع) للبر والإحسان

-          حسينية دار الزهراء (ع)

-          الإئتلاف الإسلامي الوطني

-          تجمع الميثاق الوطني

-          دار التوحيد للنشر والتوزيع

-          كما كان لها الدور الفعال في المطالبة بإدارة للوقف الجعفري.

قرار الصمود

عندما وقع الاحتلال الآثم لكويتنا العزيزة اجتمعت مجموعة الخير في ديوانية سامي العلي لدراسة الموقف والتنسيق على كيفية التصرف، وكان لأخينا الكبير وأستاذنا الفاضل المغفور له محمد خضير حبيب (بومصعب) الدور المحوري في توجيهنا، وذلك لخبرته في الحياة ولعمق تفكيره السياسي. في هذا الاجتماع تم الاتفاق على الصمود في الوطن العزيز والمشاركة في تقديم الخدمات المدنية أو ما أطلق عليها بالمقاومة المدنية، ولهذا صمدت هذه المجموعة طوال فترة الاحتلال، ولم يغادر إلا النفر القليل منها وذلك لظروف استثنائية.

http://www.bashaer.org/php/images/kw4.jpg

وعلى قاعدة الشئ بالشئ يذكر فإن من أصعب المواقف النفسية التي واجهتها في فترة الاحتلال هو عندما بدأت بإعداد هوية مزورة من إحدى السفارات العاملة في الكويت، وذلك على سبيل الاحتياط لأغادر بها الوطن فيما لو حاصرتني الظروف الأمنية، وأفضل وصف لهذا الموقف ما عبر عنه الفنان عبدالحسين عبدالرضا عندما قال "كمن ترك أمه وهي جريحة لوحدها في وسط الصحراء" أتت هذه الصورة في ذهني وأنا في لحظة مغادرة الكويت بعد أن ألح علي بعض الأصدقاء خوفاً على سلامتي، فتسمرت في مكاني وألغيت نهائياً فكرة مغادرة كويتنا العزيزة.

بدأ هذا الموقف عندما اتصل بي أحد الأخوة الأعزاء ليخبرني بأنه من الأفضل لك إصدار هوية مزورة احتياطاً وما عليك إلا أن تأتي بصورة شخصية مكشوف الرأس، ذهبت إلى مصور في الجابرية والتقطت لي الصورة المطلوبة، ومن يراها في أيامنا هذه يمكنه أن يقدر حجم النكد والتعاسة التي كنت فيها، بعدها اتصل بي الأخ الذي كان من المفروض أن يقوم بإصدار الهوية المزورة ليخبرني بأنه قد فات الأوان لأن السفارة أغلقت وغادر موظفوها، فرحت لهذا الخبر فرحة من احتضن أمه بعد فراق طويل، طلبت من أخينا في الله بإتلاف الأوراق وقلت له "سعيك مشكور ورحم الله والديك أرحتني ( فكيتني ) من هم كبير".

http://www.bashaer.org/php/images/kw7.jpg

وبناءً على قرار الصمود والمشاركة في تقديم الخدمات المدنية نشطت مجموعة الخير في هذا المجال من خلال التطوع للعمل في (مستشفى مبارك / إدارة محلات مقامس / المساعدة في فتح بعض محال شركات أبناء المرحوم جاسم الوزان) .

وبالإضافة إلى هذا الدور الذي قامت به المجموعة فإنها  شاركت في اجتماعات القوى السياسية من خلال الأخ العزيز عبد الهادي الصالح، وكان حلقة الوصل بين المجموعة وبين القوى السياسية هو الأخ العزيز عبد الوهاب الوزان الذي كان له الدور الفعال في انعقاد هذه الاجتماعات. كانت هذه الاجتماعات تنعقد رغم الظروف الأمنية القاسية التي فرضها الاحتلال فلو كشفها لتم اعتقال المشاركين فيها، في هذه الاجتماعات تدارست هذه القوى مبادئ النهوض بالبلاد بعد التحرير، وقد نجم عن الدراسة إصدار وثيقة (الرؤية المستقبلية) التي وقعتها القوى السياسية بالإضافة إلى شخصيات كويتية بعد التحرير.

وكالة يقولون

من الظواهر السلبية التي برزت في فترة الاحتلال الآثم هي كثرة الإشاعات وسرعة انتشارها وخصوصا في بداية الاحتلال، ولهذا اخترع الصامدون على أرض الوطن تسمية جديدة لمصدر هذه الإشاعات وهي وكالة يقولون الإخبارية، ولقد أصبح من الصعب فرز الخبر الصادق من الكاذب، وبسببها وقعت الكثير من المشاكل والخسائر.

كانت بعض أخبار هذه الوكالة مضحكة وفيها استخفاف لتفكير كل ذي لب، ولكن الحالة المعنوية المتوترة والنفسية القلقة التي كانت سائدة في ذلك الوقت تجعل من ذي اللب لا يقبل بهذا الاستخفاف فقط وإنما يقوم بالترويج له، منها ما أخبرني به أحد الأطباء بعد ثلاثة أسابيع من الاحتلال أن الجنود الأمريكان منتشرين في جزيرة فيلكا وفي الرقة والصباحية ولكنهم متخفين باللباس الكويتي (دشداشة وغترة) .

في الأيام الأخيرة من شهر فبراير 1991م بدأت وكالات الأنباء العالمية تتحدث عن انهيار قوات الاحتلال وأن انسحابها من الكويت بات قريبا، و كنا نسمع هذه الأخبار من إذاعة BBC العربية وهي الوكالة العالمية الوحيدة التي كنا نستطيع التقاط موجاتها في الكويت، انتشرت مع هذه الأخبار في الكويت أخبار من وكالة يقولون عن نية قوات الاحتلال باعتقال أكبر عدد من المواطنين الكويتيين الشباب قبل انسحابها، وذلك لاستخدامهم كدروع بشرية أو كورقة تفاوض فيما بعد. ولكن لم نأخذ هذه الأخبار على محمل الجد لأنها صادرة من وكالة يقولون، ولهذا استمرت الحركة طبيعية في الشوارع كما هي دون أخذ الحيطة والحذر.

بداية الأسر

وكنتيجة لعدم الأخذ الحيطة والحذر وقع الكثير من الشباب في الأسر منهم كاتب هذه المذكرات، وهو الذي طالما حذر من الوقوع في فخ هذه الوكالة وها هو يقع فيه (ولا حدش سمى عليه) .

كان هذا في يوم الجمعة الموافق 22 فبراير 1991م فقد كنت على موعد مع أستاذنا المغفور له محمد خضير حبيب (بومصعب) وذلك لاصطحابه إلى اجتماع مع بعض الأخوة لمناقشة اجتماعات القوى السياسية، خرجت من منطقة المنصورية الساعة الثامنة صباحاً مصطحباً معي ابنتي انتصار وإحدى السيدات من عائلة معرفي قاصداً منطقة مشرف، كانت الحركة كما هي في كل يوم ولا وجود لأي مظهر من مظاهر الاعتقال. وفي مشرف أوصلت السيدة إلى بيت والدها ثم أوصلت ابنتي انتصار بيت أخي سيد كمال على أن أعود لهما بعد صلاة الظهر، ومن ثم توجهت إلى بيت بو مصعب وإذا به جالس على الرصيف ينتظرني.

http://www.bashaer.org/php/images/kw6.jpg

كان بو مصعب قلقا من أخبار الاعتقالات هذه، فأخبرته بأن الهدوء يسيطر على الطريق من المنصورية إلى مشرف و لم ألاحظ ما يثير القلق والحركة كانت عادية ولنتوكل على الله ونذهب، فوضع بعض المواد الغذائية في السيارة وطلب مني قبل أن نذهب للاجتماع علينا ان نوصلها إلى أسرة محتاجة، وبعد ذلك لابد من الذهاب إلى أسرة أخرى لنعطيها مبلغ نقدي فهي لا تملك منه شيئاً وكلاهما في منطقة الرميثية. وبينما نحن متجهين إلى الأسرتين كان بو مصعب يشرح لي آخر مستجدات اجتماعات القوى السياسية، وفي الأثناء وصلنا لحاجز من حواجز قوات الاحتلال عند تقاطع نادي اليرموك في مشرف.

وقفنا عند الحاجز في طابور السيارات وكنا نشاهد قوات الاحتلال وهي تنزل الشباب من السيارات وتعتقلهم، وكنت أعتقد بأنه لا ينطبق عليّ السن المطلوب للاعتقال، انتظرنا حتى أتى دورنا طلب الضابط العراقي هويتي فأعطيته إياها فلما رأى تاريخ الميلاد أمرني بالنزول والاصطفاف في طابور يضم الكثير من الشباب، وكان الطابور تحت حراسة بعض الجنود وعناصر من المخابرات عند حائط لونه أصفر لأحد البيوت المطلة على حاجز التفتيش، وهذا الحائط لا زال محتفظاً بلونه ولا زلت أتذكر يوم اعتقالي للأسر كلما مررت عليه رغم مرور واحد وعشرين سنة على هذه الحادثة.

طبعاً كل محاولات بو مصعب ثني الضابط عن اعتقالي باءت بالفشل، وكان يقول فقط المطلوب توقيع تعهد (ما كو شي هسة بس تروح للمخفر وتوقع على تعهد وتعود لأهلك) ، وطلب من بو مصعب ترك السيارة والعودة إلى منزله ماشياً. وأخبرني بومصعب بعد خروجي من الأسر بأنه ظل يلح على الضابط لاقناعه على اطلاق سراحي، ولم يكف بو مصعب عن إلحاحه على الضابط إلا بعد أن هدده باعتقاله معنا (هسه أربطك مع صاحبك) .

من مخفر إلى مخفر

أثناء وقوفي في الطابور كنت أشاهد سيارات مدنية يقودها أفراد من قوات الاحتلال تنقل من يتم اعتقالهم (رايحة وجاية) ولا ندري إلى أين يتم أخذهم، طبعاً السيارات كانت للمواطنين المعتقلين فقوات الاحتلال لا تكتفي باعتقال الشباب وإنما تستولي على سياراتهم أيضا. لما أتى دورنا أمرونا بالركوب في سيارتي وتم نقلنا إلى مخفر سلوى، وهناك تم حجزنا في أحد المكاتب التي بدأت تتكدس تدريجيا بالمعتقلين فالاعتقال بالشوارع جاري على قدم وساق، وقبيل أذان الظهر بدءوا بترحيلنا على شكل مجموعات تتكون كل مجموعة من سبعة أفراد، ركبنا السيارة وأيضا كانت سيارتي وأجلسونا جميعا بالمقعد الخلفي، وتحركت بنا السيارة إلى أين؟ لا ندري.

في هذه الأجواء المتشنجة إذا أردت أن تسأل عليك أن تتوقع غير المتوقع أقلها إنك ستسمع شتيمة من النوع الفاخر تتوغل في أعماق عزتك وكرامتك (لقد عبرت مسرحية سيف العرب عن هذه الحالة خير تعبير) ، وحتى إذا مر هذا السؤال بخير وسلام فإن الجواب عندهم ليس بالضرورة يشفي غليل السؤال، هذه ما عودونا عليه طوال مدة الاحتلال ، أليس البعث هو صاحب قاعدة "اكذب.. اكذب.. اكذب حتى يصدقك الناس" .

لم تطول حيرتنا فقد عرفنا من خلال خط السير أن المقصد مخفر بيان، ويبدو أنه تم ترحيلنا بسبب ازدحام مخفر سلوى بالمعتقلين. عند وصولنا لمخفر بيان أنزلونا من سيارتي وغادرت السيارة ولم أرها بعد ذلك اليوم، و كما يقال ذهب الجمل بما حمل فقد كانت مليئة وكما ذكرت بالمواد الغذائية ومضخة مياه، ومن الطريف بعد عشرة سنوات من هذه الحادثة سألني ابني سيد حسين الذي لم يكن وقتها مولوداً: "هل صحيح أن جنود الاحتلال أخذوا سيارتك" فكان الجواب: "انهم أخذوا أبوك قبل سيارته" .

ومخفر بيان لم يكن أفضل حالا من مخفر سلوى فقد كان هو أيضا مزدحماً بالمعتقلين، فقد حشرونا وقد بلغ عددنا في آخر النهار (المغرب) خمسين معتقلاً في غرفة الحجز التي لا تزيد مساحتها عن 25م2 (5م × 5م) ، ولك أن تتخيل أن تجلس طوال الليل في مساحة لا تزيد عن نصف متر مربع، أما الفرائض فقد أديناها حسب ما أذكر من جلوس. وطبعاً عليك أن تنسى شيئا اسمه أكل أو ماء أو حتى نوم فقد بقينا طوال النهار والليل بدونهما، وهذا أراحنا من عناء الذهاب إلى دورات المياه، وقد أضحكني تعليق أحدنا على الحالة التي نحن فيها فقد قال: "لقد كرم الله سبحانه وتعالى البشر ولكن هؤلاء وضعوا علامة × على البشرية" .

القلق والرعب

في البداية كان الشعور السائد بين المعتقلين مزيج من الرعب والقلق، الرعب من كثرة ما سمعنا عن قصص التعذيب القاسي التي كانت تشاهد آثارها على جثث الشهداء، ولكن بمرور اليوم الأول زال هذا الرعب بعد أن تبين لنا أن الاعتقال ليس لأسباب أمنية بل للأسر والذي انتشرت أخباره ولم نحتاط منه، والذي أكد لنا هذا هو الاعتقال العشوائي من الشوارع وتزايد أعداد المعتقلين بصورة ملفته للنظر وعدم تعرضهم للتحقيق، فقط يتم نقلهم من حجز إلى آخر.

أما القلق فقد رافقنا طوال فترة الأسر وذلك أولاً لأننا لا ندري إلى ما يكون مصيرنا ومصير أهلنا؟، وثانيا أن كل من اعتقل ترك أهله ولم يعد إليهم وبالتالي فهم يعيشون في الحالة من قلق، فكيف بمن ترك أهله وهم أصلاً بحاجة إلى عون؟ كالذي اعتقل معنا وقد ترك زوجته في البيت وهي في حالة مخاض الولادة مع والدته وتم اعتقاله وهو ذاهب لإحضار دكتور أو ممرضة لتساعدها على الولادة. ومما يزيد هذا القلق هو أن التواصل بين الأهالي انقطع بسبب انقطاع خطوط الهاتف من ثالث يوم من بدء قوات التحالف بالقصف الجوي، ولأن التنقل بين المناطق أو البيوت بالنسبة للكويتيين انعدمت لانتشار أخبار الاعتقالات.

بالنسبة لي شخصياً في هذا المجال فقد كنت قلقا على أمرين الأول من وقع خبر اعتقالي على والديّ، وبقدر ما كنت قلقاً عليهما كنت متفائلا بدعائهما لي عندما يعلمان بالخبر، فبحمد الله أن أنعم علي والدين صالحين اعتادا على الصلاة ومناجاة ربهما والدعاء في جوف الليل منذ أمد بعيد، وهذا التفاؤل بعد التوكل على الله هو الذي ورد الاطمئنان إلى نفسي ومكنني من مواجهة حالات الرعب والقلق.

أما الأمر الثاني هو وكما ذكرت سابقا بأني تركت ابنتي انتصار في بيت أخي سيد كمال في منطقة مشرف على أن أعود لها بعد صلاة الظهر، والقلق كان لأنه من المؤكد بأن أخبارها سوف تنقطع عن أمها التي تسكن في المنصورية وبهذا سوف تكون في موقف لا يحسد عليه، ففي وقت واحد فقدت أخبار الزوج والابنة في أجواء التوتر الأمني والتشنج المخابراتي وهي لا تعلم ما مصيرهما ولا يمكنها الاتصال أو التنقل لتتقصى أخبارهما، ولكن الله سبحانه وتعالى لا ينسى عبده في مثل هذه الحالات.

في غرفة الحجز

رغم مأساوية المشهد إلا إنه لم يخلو من قصص طريفة فشر البلية ما يضحك، واحدة منها إننا بينما كنا محشورين في غرفة الحجز والكل يعيش حالة القلق التي ذكرتها فتح باب الحجز الذين نحن فيه وألقوا علينا شاب معتقل لا يتجاوز عمره الخمسة عشر عاماً، ولكن طريقة لبسه للغترة وحلاقة شعره على الصفر أظهرته بأكبر من عمره، وعندما جلس بيننا هذا الشاب بدأ بالبكاء فبادرنا بتهدئته ورفع معنوياته اعتقاداً منا بأن بكاءه كان بسبب شعوره بالرعب أو القلق الذي كان يراودنا جميعاً، ولكن عندما كشف عن سببه وددنا لو أننا بغير هذا الموقف لأشبعناه لطماً على قرعته، أتدرون ما هو سبب بكاءه ؟ بكاءه كان على كلبته التي تركها وحيدة بالمنزل بلا راعي ولا معين، ولا يدري من سيقوم بإطعامها.

وكذلك في مثل هذه الأجواء الضاغطة  تنكشف معادن الناس ويتبين لك خيط الأنا وتدني النفس من خيط الإيثار والشهامة والرجولة، فبيمنا نحن محشورين أتت سيدة كويتية لترى ابنها المعتقل معنا ولتطمأن عليه، وقد أحضرت معها بعض المعجنات وكانت الكمية محدودة لا تكفي لنصف عددنا الخمسين، رأيت من تعفف من أخذ حتى واحدة ليتيح للآخرين أخذ نصيبهم، ورأيت من تسابق لأخذ ما تستطيع اليد استيعابها ولهمها في مضغة واحدة.

إلى سجن الأحداث

المهم قضينا تلك الليلة ونحن بحالة وكما يقال ما يعلم بها إلا ربنا، وفي الصباح وكانت تقريبا الساعة التاسعة أخرجونا من الحجز وقادونا إلى موقف السيارات في المخفر، واستغليناها  فرصة لنحرك بها مفاصلنا ونمدد عضلاتنا بعد أن كادت تتعوق من طول جمودها.

في فترة الاحتلال تأقلمنا على المشاعر المتناقضة لأنها احتارت عندنا كما احتارت بنا الأفكار ففي وقت واحد تجد نفسك أمام موقف محزن ومفرح، أو مبكي ومضحك، فقبل ركوب الحافلة رأينا السماء ملبدة بغيوم سوداء و ظننا بأن مطرا غزيراً هو آتي عن قريب، ولكن بعد أن دققنا النظر في الغيوم خاب ظننا لأنها كانت غيوم ممزوجة بدخان كثيف أسود، وهذا يعني بأن المقبور صدام قد أوفى بوعده المشئوم وهو تفجير آبار البترول قبل انسحابه من الكويت.

ونحن أمام هذا المشهد لا ندري أنحزن لحرق ثروات الوطن، أم نفرح لأنها تعد من بشائر انسحاب عدو لطالما عاث في الوطن فسادا وجثم على صدورنا طوال ستة أشهر، وتحركت بنا الحافلة، ولكن إلى أين ؟ كالعادة لا ندري.

لم أكن أعلم بأننا متوجهين إلى سجن الأحداث إلا بعد أن توقفت بنا الحافلة عند باب السجن، فهذا السجن سمعت وقرأت عنه مرات ولكني لم أقصده ولا مرة ولذلك لا أعرف طريقه. وفي السجن وبعد أن تمت إجراءات الدخول من تحقيق الهويات وتسجيلنا بكشوف أدخلونا العنابر، ويا للمفاجأة التي جعلتني في حالة من الشعور المتناقض الحزن والفرح .

لقد سبق وأن ذكرت ببقاء الشعور بالقلق وزوال الشعور بالرعب ولكن حل محله مع مرور الوقت الشعور بالوحشة، فنحن المعتقلين الخمسين لم يكن أحدنا يعرف الآخر ولذلك كان طابع علاقتنا ببعض الرسمية والحذر، صحيح أننا كنا متماسكين (قلوبنا على بعض) ويحاول كل منا رفع معنويات الآخر، ولكننا نتحدث هنا عن من تثق به وتنفتح عليه ليكون عونا لك في حالة الشدة والضيق.

وهذه المفاجأة أزالت عندي أيضا شعور الوحشة التي سبق وأن تحدثت عنها لأني التقيت بالكثير من الأخوة الأعزاء التي كانت تربطني معهم علاقة صداقة ومحبة وثقة، فأول من التقيت به من هؤلاء الأخوة الأخ العزيز الأسير المزدوج عادل عبد الرحمن الصغير، نعم أسير مزدوج لأنه أسر مرتين، الأولى كانت في أول يوم من الاحتلال وقد تم اعتقاله في احدى معسكرات الجيش الكويتي حيث كان يؤدي الخدمة العسكرية وفق قانون التجنيد الإلزامي الذي كان مطبقا في الكويت قبل الاحتلال وتم إلغائه بعد التحرير، وقد تم الإفراج عنه بعد ثلاثة أشهر من أسره، وهاهو يقع في الأسر مرة ثانية بعد شهرين من الإفراج عنه، لذا فهو يستحق لقب الأسير المزدوج .

لم الشمل وتماسكه

في بداية اللقاء مع عادل الصغير تبادلنا بعض الطرائف على حظه العاثر وكأن ليس في الكويت غيره حتى يتم أسره مرتين، وقد استفدنا كثيرا من خبرته في لم شمل الأخوة الأعزاء وفي تماسك هذا الشمل، وبما أنه هو السابق إلى سجن الأحداث فقد أعطاني تقرير مفصلاً عن من رآهم في السجن من المجموعة المباركة وكذلك ممن تربطنا معهم رابطة الأخوة والصداقة، وبعد الانتهاء أوصى بتوصية مهمة وقد كانت عونا لنا في فترة الأسر، التوصية هي أننا لابد أن نبحث عن هؤلاء الأخوة لنتجمع فبلا شك سيتم ترحيلنا إلى مكان آخر، إلى أين ؟ كالعادة لا ندري.

من هؤلاء الأخوة الذين رآهم عادل الصغير الأخوة الأعزاء عبد الوهاب الوزان وعبد الهادي الصالح وعبد الله غضنفري، وبدأنا بالبحث والذي ساعد على عملية البحث هو أن السجن عبارة عن عدة مباني منفصلة تربطها ممرات، كل مبنى له باب حديدي ومكون من ثلاثة أدوار مفتوح على بعض مما يتيح لك التنقل من دور إلى دور للبحث، خلال عملية البحث علمنا بأنه تم ترحيل عبد الهادي الصالح وتم الإفراج عن عبد الوهاب الوزان بعد أن سعى لذلك ابن أخته أحمد حسين الوزان ودفع للمسئولين اللازم والمعلوم من الدنانير.

تمكنا في عملية البحث هذه من تجميع ما يقارب عشرة من الأخوة الأعزاء، ومن الذين أتذكرهم من هؤلاء عبد الله غضنفري ـ حسين كرم تشو ـ جواد حبيب، وكان عبد الله غضنفري في مبنى آخر وقد رأيته بالصدفة أثناء عملية البحث، وقد تكلمنا مع بعض ونحن وراء القضبان واتفقنا على أن يبحث كلانا عن الآخر إذا حصل تنقل بين المباني، وهذا ما حصل فبعد كل عملية ترحيل يتم تجميع المعتقلين في مبنى واحد حتى يمكن السيطرة عليهم.

بتنا ليلتنا الأولى في سجن الأحداث وأي بيات وقد كان هذا في مساء يوم السبت أي أننا منذ يومين لم نذق لا الطعام ولا النوم فراشنا الأرض الأسمنتية ولحافنا السقف، أضف إلى ذلك سمفونية الطائرات الحربية وهي تقصف طوال الليل وأصوات الانفجارات المدوية، أما الغفوات التي غفوناها خلال الليل كانت لأننا منهكين (كان الواحد ينام على روحه) .

مشاهد في سجن الأحداث

من المشاهد التي شهدناها في السجن وقد كانت من مشاهد الحاجة أم الاختراع هو إعداد وجبة الغذاء، ففي اليوم الثاني في سجن الأحداث تطوع مجموعة من المعتقلين لطبخ وجبة الغداء ولم تكن غير الرز المطبوخ بالماء فقط (عيش جاول) ، فقوات الاحتلال لم تمد هؤلاء المعتقلين بغير الرز وحلة طبخ كبيرة (جدر كبير) كتلك التي تستخدم في الحسينيات، أما الغاز فلا يوجد لأنه أصلاً مفقود من السوق، وقد كانت من أولويات الصامدين هو تجميع سلندرات الغاز وخصوصا مع بداية القصف الجوي، فماذا فعل المعتقلين؟

لقد اقتلعوا عدد من الأبواب الخشبية وأوقدوا بها نارا ليطبخوا عليه الرز، ولك أن تتخيل المشهد الكل يتفرج عليهم (ماكو شغل) وهم منهمكين بالعمل من نوافذ العنابر التي تطل على الساحة التي يطبخون فيها. وفي النهاية كنا راضين بالطبخة مهما كانت لينة (مريس) ، ولكن عندما وزعوا علينا الرز وزعوها بكميات قوت لا يموت والتي هي بالتأكيد ليست للشبع بل ربما للبركة أو للحلف عليها، والحمد لله على كل حال.

إلى معسكر أبو صخير

في يوم الأحد وهو اليوم الثاني في سجن الأحداث بدأت قوات الاحتلال بتقسيمنا إلى مجموعات كل مجموعة تتكون من ستين إلى سبعين معتقل، كان الوقت وإن كان عصرا ولكنه يبدو كالليل فالدخان الكثيف لحريق آبار البترول خلط النهار بالليل، لذلك فلم نعد نميز بينهما. علمنا أن ساعة الترحيل قد أزفت وهنا تجلت فائدة توصية عادل الصغير بأن نتجمع ولا نتفرق ليتم ترحيلنا مجتمعين، حافظنا على تجمعنا إلى ان تمكنت المجموعة بأكملها ركوب الحافلة (باص تاتا) ، جلست وجلس بجانبي عبد الله غضنفري وحاوية بلاستيكية مملوءة بالديزل بين أرجلنا ، وتحركت بنا الحافلة، إلى أين؟ كالعادة إلى حيث لا ندري.

سارت بنا الحافلة وهي تتبختر في الطريق فالشوارع خالية لا آدمي ينظر إليها ولا سيارة تزاحمها ولا إشارة مرور توقفها، فقط هي في الشوارع التي خلت من كل حركة حتى القطط والكلاب الضالة لم يعد لها أي وجود، يبدو أنها اختبأت خوفا من أن يتم اعتقالها فقوات الاحتلال في التعامل سواسية لا تميز بين الإنسان وغيره من المخلوقات. توقفت حيرتنا عن الوجهة التي نحن متجهين إليها عندما دخلت الحافلة طريق الجهراء السريع في اتجاه المطلاع، قلنا أكيد إننا متجهين إلى العراق ولكن سرعان ما رجعت إلينا الحيرة عندما انحرفت الحافلة عن يمين طريق الجهراء وأخذت طريق كاظمة، وبعد أن سرنا ما يقارب الستين كيلومتر انحرفت بنا الحافلة إلى اليسار، أنه طريق أم قصر الذي يؤدي إلى العراق ولأسباب عسكرية استخدم هذا الطريق لنقل الأسرى.

قصف في الطريق

الغريب أننا كنا ما يقارب الستين أسير يحرسنا اثنين فقط من قوات الاحتلال مع سائق الحافلة ومع هذا لم يفكر أحدنا في الهجوم على الحارسين لنحرر أنفسنا من الأسر، وقد كان هذا لسبب بسيط هو أنه لو افترضنا إننا نجحنا في تحرير أنفسنا بعدها إلى أين نتجه؟ خصوصا بعد أن بعدنا عن المناطق السكنية وأصبحنا في وسط ميدان القتال. لك أن تتصور الموقف الحافلة تسير في ظلام دامس بدون إضاءة وذلك لأن السائق الذكي يريد يبقي الحافلة عن رؤية طائرات التحالف، ولاحظنا ذكاء آخر للسائق هو أنه بين فترة وأخرى يفتح الشباك الذي بجانبه ويخرج رأسه منه محاولا استراق السمع، في المرة الأولى لم نفهم سبب هذه الحركة ولكن بعد تكرار الحركة عرفنا بأنه يحاول سماع أزير طائرات قوات التحالف ليتجنب غارتها على الحافلة.

في منتصف طريق أم قصر حدثت المفاجأة ووقع ما كان السائق منه يحذر ويخاف فقد بدأت طائرات التحالف بقصف الدبابات المنتشرة على ضفتي الطريق، وعلى الرغم من انها لا تبعد عنا سوى أمتار ألا أنها لا يمكن رؤيتها بسبب دخان حرق أبار النفط الذي زاد من سواد الليل، وبلا شك أنها لو أرادت قصف الحافلة بمن فيها لفعلت بدون أي صعوبة ولكنها كانت تعلم بأن هذه الحافلة تنقل مدنيين أبرياء لا ذنب لهم، وما يعزز هذا ما أخبرتنا به دفعة الأسرى التي وصلت بعدنا، فقد روت لنا بأن طائرات التحالف قصفت السيارة الصالون التي كانت تسير وراء الحافلة التي كانت تقلهم مباشرة وفيها ضباط من قوات الاحتلال.

ملخص هذا المشهد المرعب إننا كنا نرى وميضاً في السماء يبرق فنعرف أن الصاروخ قد انطلق من الطائرة وكأنه انطلق من فوق رؤوسنا، بعدها ما هي لحظات حتى ترى دبابة تنفجر على الأرض، كنا خائفين من وصول شظايا انفجار الدبابات أن تصلنا ولكن يبدو إننا كنا نعيش حالة القريب منك بعيد، فالدبابات التي كانت تنفجر عن يميننا وشمالنا بعيدة عنا ولهذا شظاياها لم تكن لتصيبنا، ولكن ضخامة الانفجار يجعلها تبدو قريبة منا. بعد أن انتهى هذا المشهد المرعب بدأنا نتهامس ونضحك فيما بيننا على السائق وقلنا أكيد أنه محتار كيف استطاعت طائرات التحالف الكشف عن مكانه، وهو بعد هذا المشهد توقف من تكرار الحركة إياها.

عاد السكون والهدوء إلى من في الحافلة بعد حالة الهلع والفزع التي أصابتهم نتيجة المشهد المرعب، وواصلت الحافلة المسير ولا نرى في وسط الظلام إلا آبار البترول المشتعلة التي لم تنقطع من أول طريق أم قصر إلى آخره. الذي كنا نعرفه فقط هو إننا متجهين إلى العراق ولكن كم قطعنا من الطريق، وكم بقى على وصولنا، وأي منطقة في العراق سنسجن فيها، وما هو الوقت من الليل ؟ كالعادة لا ندري.

وصلنا معسكر أبو صخير

فجأة دخلت الحافلة في منطقة سكنية وتوقفت في ساحة بين بيوت مهدمة وأخبرنا السائق بأنه توقف للاستراحة، لم نفهم سر هذا التوقف إلا بعد وصولنا إلى المعسكر الذي سجنا فيه طوال مدة الأسر، فعند دخولنا من بوابة المعسكر رأينا حافلة أخر تخرج من البوابة وهي مليئة بأسرى كويتيين عرفنا فيما بعد أنهم متجهون إلى بغداد، فقد كان الوقوف في الساحة لا للاستراحة وإنما لانتظار ترحيل الأسرى الموجودين في المعسكر ليخلو المكان لأسرى آخرين يتم تجميعهم فيه ليتم ترحيلهم في اليوم الثاني إلى سجن بعقوبة (مدينة قريبة من بغداد) ، أي أن هذا المعسكر هو بمثابة منطقة ترانزيت للأسرى.

هذا المعسكر يسمى بمعسكر أبو صخير وهو اسم المنطقة الذي يقع فيه المعسكر وهي تابعة لمحافظة البصرة، وهو معسكر مهجور لا أثر للحياة فيه فقط نحن الأسرى والحراس الذي لا يزيد عددهم في أكثر التقديرات عن العشرين، لا توجد بالمعسكر ساحات خارجية مسفلتة أو مبلطة والأمطار الغزيرة جعلتها طين بطين كما هي حالتنا (مطينة بستين طينة) .

والمعسكر يتكون من أربعة عنابر وبعض المباني مهدمة أو غير مكتملة البناء ولهذا فهي خاوية على عروشها، مساحة كل عنبر من هذا العنابر لا تزيد عن 180م2 ( 6م×30م ) ، العنبر عبارة عن سقف وحوائط بشبابيك وأبواب حديد كالتي تستخدم في السجون وبدون زجاج، أي أن الهواء القارس يأتيك عن يمينك وشمالك ومن فوق رأسك ومن بين أرجلك ، وكما يقال فإننا طوال فترة الأسر كنا نفترش الأرض الأسمنتية ونلتحف السماء.

كان الليل بعد منتصفه عند وصولنا المعسكر، كان الظلام دامس والجو ممطر والبرد قارس، وبعد أن أنزلونا من الحافلة أوقفونا في طوابير يبعد كل فرد عن الآخر بمسافة متر من كل الجوانب، ثم أمرونا بالجلوس على الأرض ليحصونا، كان هذا مساء يوم الأحد الموافق 24/ 2 / 1991م.

وأنا على هذا الحال وفي هذا الموقف رددت بيتا من الشعر وهو مطلع قصيدة تصف حالة  الأسير مطلعها :

وقف الأسير مقيداً... بين الأسنة والعدى

لم يخطر على بالي بأني سأقف هذا الموقف عندما كنت أكرر هذه القصيدة لأحفظها وأنا في المرحلة الابتدائية أي قبل ما يقارب ثلاثين عاما من تاريخ وقوعي في الأسر، وأتذكر صورة مرسومة تعلو القصيدة تشبه الوضع الذي كنا عليه.

بعد العد والإحصاء أمر آمر المعسكر بفتح عنبر كامل على حسابنا وهذا ليس لكرم الضيافة بل لأننا الدفعة الوحيدة من الأسرى التي وصلت المعسكر في تلك الليلة، وستون شخصا في مساحة 180م2 أكيد أن العنبر يفيض علينا (يخب علينا) ، وكما ذكرت فقد افترشنا الأرض والتحفنا بالسماء واضعين أحذيتنا تحت رؤوسنا كوسادة، و هذا يعد استخدام إضافي للحذاء ففي النهار بأرجلنا وفي الليل تحت رؤوسنا، أليس وكما تقول القاعدة الحاجة أم الاختراع، وحرم من هذا الاختراع عبد الله غضنفري لأنه فقد حذائه في سجن الأحداث ـ الكويت ـ و ظل يتنقل حافي الرجلين إلى أن وجده ثالث أو رابع يوم من وصولنا معسكر أبوصخير. حاولنا بشتى الطرق أن نغلق فتحات الشبابيك والأبواب بالقطع الخشبية أو الحديدية التي حصلنا عليها في العنبر لنصد الزمهرير الذي جمد الدم في عروقنا فلم نفلح .

الله يجيرنا من شئ أعظم

هذا مثل شعبي حدثني عنه احد الأخوة السوريون أثناء تصليح سيارتي في منطقة الشويخ الصناعية ـ الكويت ـ قبل أيام من وقوعي في الأسر، وهو مثل فيه رجاء من الله سبحانه بأن لا يغير الحال إلى أسوء مما هو عليه، وقد حدثني عن هذا المثل عندما سمعني أقول الله يستر لما سمعنا دوي القصف الجوي، قصة المثل هكذا يروى أن سلطانا حكم على أحد الرعية بالإعدام فأخذ إلى منصة الإعدام، وأثناء الطريق سمع الجلاد المحكوم عليه يردد "الله يجيرنا من شئ أعظم" فتعجب الجلاد وسأل المحكوم: "لك في شئ أعظم من الموت" فرد عليه المحكوم: "ما دخلك" وظل يردد المقولة إلى أن لف حبل المشنقة حول رقبته وهو يردد المقولة، وقبل تنفيذ الحكم بلحظات أتى الفرمان من السلطان أن أنزلوه من منصة الإعدام وأجلسوه على الخازوق حتى الموت، فالتفت المحكوم عليه للجلاد وقال له: "ما قلت لك الله يجيرنا من شئ أعظم" .

في تلك الليلة وهي الليلة الأولى في المعسكر كانت حالتنا كحالة هذا المحكوم عليه فقد كانت أمنيتنا أن تقف البهذلة إلى هذا الحد وتحافظ على مستواها ولا تتدنى أكثر من هذا، تحملنا القلق والرعب والوحشة، تحملنا الذل والمهانة، تحملنا ثلاثة أيام بلا طعام ولا شراب إلا بقدر قوت لا يموت، تحملنا المخاطر التي واجهتنا في الطريق، تحملنا النوم على الأرض الصلعاء بلا غطاء والزمهرير يحف بنا من كل مكان ، فماذا بعد ؟

ولكن في الصباح الباكر عرفنا أن ما مر علينا لم تكن حتى بداية البهذلة، وإنما بدايتها كانت عندما نادى الحارس إذا كان أحد منا بحاجة إلى دورة المياه، على أثر هذا النداء الكل رفع يده جاهلين الشئ الأعظم المخبأ لنا ، لما رأى الحارس هذا العدد قسمنا على دفعات كل دفعة تتكون من 10 ـ 15 أسير.

حسبت أني محظوظا لأني خرجت مع الدفعة الأولى وإذا بالمفاجأة تنتظرنا، فقد كان يوجد بقرب من الساحة خزان قيل لنا أن الذي فيه ماء ، ولكن عندما نظرنا ما بداخله رأينا شئ يمكن  أن يكون أي شئ ما عدا كونه ماء، فلا اللون ولا الرائحة ولا الطعم يدل على أنه ماء، وبعد أن أخذنا منه قليلا بواسطة علبة فاضيه (قوطي) ، سئلنا الحارس عن مكان دورات المياه وحسبناه يمزح حين التفت إلى الساحة التي أمام العنابر (ويبدو أنها كانت ملعب كرة قدم) وقال لنا:  "هاي هي الحمامات" .. صدق كذب "لا يابه صدق" .   

الكل تدبر أمره على طريقة من ليس له حيلة فليحتال ولك أن تتخيل خمسة عشر آدمي يقضون الحاجة في آن واحد بملعب كرة قدم ماذا يكون الوضع عليه؟ واستخدمت هذه الساحة كدورات مياه طوال فترة الأسر في المعسكر، والذي هون من الأمر علينا هو أننا لم نعد بحاجة متكررة للذهاب لدورات المياه وذلك لقلة الأكل والشرب ولحالات الإمساك الذي أصيب بها البعض لسوء التغذية، لقد تناقصت هذه الحاجة إلى مرة في اليوم أو كل يومين، ولا يستبعد أنه لو طالت فترة الأسر لانعدمت.

في الليلة الثانية بدأ الحرس بعدنا وعلمنا أن هذا الإجراء اتخذ استعدادا للترحيل إلى سجن بعقوبة وقد أخبرنا بهذا الأسير المزدوج عادل الصغير، ولكن مضت الليلة بالانتظار ولم يتم الترحيل ولم نكن نعلم السبب، وعلمنا فيما بعد أن إلغاء الترحيل تم لأن قوات التحالف دخلت العراق وقطعت طريق البصرة بغداد.  

وإذا ما قارنا دفعتنا بدفعات الأسرى التي وصلت بعدنا تكون دفعتنا بمستوى VIP سواء بالنسبة لطريقة الترحيل لمعسكر أبو صخير أو الإقامة فيه، فإحدى هذه الدفعات تم ترحيلهم من سجن الأحداث إلى المعسكر بشاحنة لنقل الرمال والحصى مكشوفة (نساف) ، تصور ماذا يكون عليه الزمهرير ودخان آبار النفط مع سرعة الشاحنة مع القصف الجوي وهم وقوف وبدون غطاء ولمدة تقريبا 10 ساعات.                

تشابهت علينا الأيام

وبدأت العنابر تتكدس بالأسرى بعد أن توالى وصولهم للمعسكر دفعة بعد أخرى حتى بلغ عدد الأسرى 1250 أسير أي بمعدل 350 أسير في كل عنبر، وأتذكر هذه العدد لأن عدنا وإحصائنا كان مستمرا طوال فترة الأسر وذلك للتأكد من احد منا لم يهرب، وكذلك لأن يوم إطلاق سراحنا أعلنت وكالات الأنباء أنه تم إطلاق سراح 1250 من الأسرى الكويتيين.

350 أسير في مساحة لا تزيد عن 180 م2 أي نصيب كل واحد منا تقريبا نصف متر مربع، وفي هذه الحالة لا أمل في النوم على الظهر فإما على الجنب الأيمن أو الأيسر، وطبعا إن أردت أن تتقلب ذات اليمين أو ذات اليسار لابد لك من أن تقف لتغير الجنب الذي تنام عليه، وإذا حالفك الحظ وتمكنت من النوم فإنك غالبا ما تصحو على كف ممن هو ورائك أو برفسة ممن هو أمامك إذا ما قرر أحدهم أن يتقلب ذات اليمين أو اليسار من دون أن يقف، وقد لا تصدقون إذا قلت لكم بأن الأخ العزيز محمد حسن دشتي في أحدى ليالي الأسر وأظنها الأخيرة نام وهو واقفا.

هذه بالنسبة للنوم، فماذا عن الأكل والشرب ؟ الشرب كان من ماء الخزان هو نفسه الذي تم وصفه سابقا، وأما الأكل فقد تم توزيع ما قيل بأنه صمون ولكنه ليس بصمون، وقيل أنه حجر ولكنه ليس بحجر، وقيل بأنه خشب ولكنه ليس بخشب، ولم يبقى إلا أن يكون صلصال من حمأ مسنون، قطعة عجينة وقيل لنا انه مخلوط مع نشارة خشب لزيادة الكمية!  هي بحجم قبضة الكف بنية اللون ولا أذكر إن كان لها مذاق، صلبة صلب الصم الصياخيد، أبية على اللين حتى لو غمرتها في سطل (تب) شاي ساخن، لا يمكن لك أن تقضم منها مباشرة بأسنانك، فلا بد لك من استخدام يدك لتقطع منها وبقوة قطعة صغيرة، وحالتنا أصبحت شبيه بحالة العجوز التي وضعت حجراً في القدر لتطبخه لتلهي به أيتامها، عند التحرير من الأسر أحضرت معي قطعة منها وأخذها بعض الصحفيون.

من الرحمات الإلهية أن سخر لنا ونحن في هذا الوضع المزري بعض حراس المعسكر، فقد تكفل هؤلاء الحراس طبعا بعد موافقة قائد المعسكر ودفع المعلوم لهم بإمدادنا بالأكل والشرب من خارج المعسكر، كانوا في صباح كل يوم يسجلون طلباتنا ويستلمون قيمتها منا ويذهبون إلى سوق البصرة لشراء الطلبات ثم يقومون بتسليمها لنا، ولم تكن هذه الطلبات اكثر من تمر (بلح) ومشروبات غازية وبعض البسكويتات، وهذا ما كان متوفر في السوق، ولكن هذه الإمدادات انقطعت و لم تستمر وذلك لأن أسواق البصرة أغلقت بالإضافة إلى خطورة الذهاب إلى البصرة بسبب أحداث الانتفاضة الشعبانية التي اشتعلت في العراق بعد تحرير الكويت.

عدنا إلى صمونة العجائب ولكن حتى هذه الصمونة تعالت علينا وتمنعت بسبب انقطاع الطرق فانقطعت إمدادات الجيش للمعسكر، ومن الظرائف التي حدثت في هذه المجال وكان بطلها الأخ العزيز جواد حبيب أنه في يوم استأذن الحارس للذهاب إلى دورة المياه فسمح له الحارس بذلك، وبعد فترة من الزمن رأيناه عائدا وهو يحمل آنية ماء (دولكة) في الوهلة الأولى حسبناه ماءاً، ولكن عندما وضع الانية بيننا رأينا فيها دجاجة مطبوخة مع مرقها، دجاجة مطبوخة بعد أكثر من عشرة أيام لم نذق بها إلا الماء وصمونة العجائب إياها، ما هي إلا لحظات وإذ بالدجاجة تختفي عن الوجود بما فيها العظم، يقول جواد أنه أثناء عودته إلى العنبر رأى بعض الحرس يطبخون الدجاج فترجاهم بأن يأخذ بعض مرق الدجاج فسمحوا له بذلك، يقول جواد عندما وضعت الآنية لأغترف المرق اغترفت معها الدجاجة وهم في غفلة من ذلك.

وفي مرة أخرى وأظنه أيضاً جواد حبيب أتانا بقنينة ماء بلاستيكية بوضعية ركوع لأنها كانت مملوءة بالشاي الساخن، و تم توزيع الشاي علينا بغطاء القنينة ولا زالت أتذوق طعم هذا الشاي الذي عز علينا في فترة الأسر، يقول جواد رأى القنينة تنحني تدريجيا أثناء ملئها بالشاي إلى أن وصلت إلى هذه وضعية ولهذا لم تمتلئ إلى آخرها.

من الناحية المعيشية والروتين اليومي تشابهت علينا الأيام كتشابه البقر على بني اسرائيل  فاليوم كالأمس والغد كاليوم، فلم تبقى سالفة في الذاكرة إلا وتحدثنا بها لدرجة إننا بدأنا باجترار السوالف التي تحدثنا بها من قبل، ليس هذا فقط بل بدأنا باختراع سوالف مثلاً ومن الجوع تحدثنا ما هي الطبخة المفضلة لكل واحد منا، وكيف يتم إعداد الأكلة الفلانية، وكان يومياً يسألنا الأخ العزيز المرحوم سيد زاهد عن طلباتنا للغداء ثم يصرخ بأعلى صوته كما هو الحال في المطاعم العراقية "أثنين تمن وواحد كباب وواحد فسنجون" ، كان الحارس يطل علينا من الخارج ولا شك أنه كان يقول لنفسه إن القوم أصيبوا بلوثة عقلية "أكيد الجماعة تخبلوا" .

توزع الأسرى داخل العنبر إلى مجموعات كل حسب معارفه وأصدقائه، كنا نحن مجموعة ما يقارب الخمسة عشر التي التم شملها في سجن الأحداث وحافظت على هذا الشمل في العنبر، وهم (عبد الله غضنفري ـ عادل عبد الرحمن الصغير ـ جواد حبيب ـ أحمد شهاب ـ نزار خاجة ـ حيدر دشتي ـ سيد زاهد الموسوي ـ حسين كرم تشو ـ محمد حسن دشتي ـ خليل عبد الشافي ـ هاشم عوض ـ عادل دشتي ـ فيصل بهبهاني ـ محمد احمد تشو) وكانت المجموعة التي بجانبنا فيه النائب والوزير السابق أحمد باقر ووكيل وزارة التربية سعود الطلب ومدير هيئة الرعاية السكنية خالد السعيد.

وكانت مجموعتنا حسب العادة الحميدة عند كل حدث يقع ترفع صوتها بالصلاة على محمد وآل محمد، وقد اعتاد بقية الأسرى على هذه الصلوات المباركة والبعض منهم أخذ يرددها معنا، وعندما كنا نرفع أصواتنا بالصلوات كانوا ينتبهون لها ويعلمون بان حدث ما وقع، وفي أحد الأيام وصل الماء إلينا بعد انقطاع ليس بالقصير فرفع سيد زاهد صوته قائلا "صلوات على محمد وآل محمد" ثم كررها ثانية وثالثة ولما سكت الجميع قال : "هذا بمناسبة وصول الماء" .

وفي مساء أول يوم الخميس (ليلة الجمعة) قام أحد الأخوة خطيبا وبدأ يذكر فضيلة هذه الليلة وأفضل الأعمال فيها ومنها ترديد الصلاة على محمد وآل محمد، وما أن سمعنا هذا حتى ارتفعت أصواتنا بالصلاة على محمد وعلى محمد فقال معقباً: "والجماعة جزاهم الله خير كل ساعة يذكرونا بهذه الصلاة" ، كانت أجواء مفعمة بالمحبة والأخوة والوحدة غابت فيها روح البغض والكراهية والتفرقة.

الساحة إياها

كان قائد المعسكر في بعض الأيام يتفضل علينا بفسحة خارج العنبر، ولكن أين؟ في الساحة إياها المقابلة للعنبر التي تستخدم كدورات مياه، أي أن هذه الساحة أصبحت ساحة متعددة الأغراض، وفي الأثناء كان الحرس يستغل الفسحة بتفتيش العنابر.

في أول فسحة وبعد أن اختلطنا مع بقية الأسرى الذين كانوا في العنابر الثلاث الأخرى شعرنا بأنه لم يبقى أحد في الكويت إلا وقد تم أسره، والتقيت بأصدقاء لم ألتق بهم منذ سنوات طوال، ولكن أعتقد أنكم تتفقون معي بأنه ليس بالموقف الذي يقال فيه لصديق لم تلتق به منذ فترة هذه الساعة المباركة (يا محاسن الصدف) ، والطريف إننا كنا نسأل الآخر "اشيايبك" ؟ فيكون الجواب "يايبني اللي يايبك" .

المذياع الصغير

في اليومين الأولين كنا نجهل ما هي آخر التطورات العسكرية على ساحة الأحداث في الكويت، إلى أن استطاع بعض من في العنبر التفاوض مع حارس العنبر ومن ثم اقناعه ببيع مذياعه الصغير لهم، لا أدري بكم اشتروا المذياع ولكن اكيد بأضعاف مضاعفة من قيمته الفعلية، ونظرا لقيمته المعنوية هذه كان لابد من التكتم عليه و أن نغطي على من يسمع الأخبار حتى لا ينكشف أمر المذياع ويسحبوه منا، ومن بحوزته المذياع كان يشغله فقط في أوقات إذاعة الأخبار حتى لا تستهلك البطارية.

ذكرت سابقاً عن معادن الرجال التي تختبر في الأوقات العصيبة فينكشف الزيف من الأصيل، وواحدة من هذه الأوقات كانت عندما أصر أحد ممن هو قريب من بحوزته المذياع على سماع أغنية (عالم فاضية وبدون دم) ، ولولا ضجة كل من في العنبر عليه لما أغلق المذياع .

بشائر التحرير

كانت أول بشائر تحرير الكويت الحبيبة واندحار جيش المحتل من الكويت هو النداءات التي أطلقتها إذاعة بغداد لاستنهاض همة الشعب العراقي للتصدي للغزو الأجنبي وعدم السماح له بالدخول لأرض العراق، وقد سمعنا هذه النداءات من سيارة الإمدادات العسكرية وقد كان سائق السيارة مشغل المذياع بأعلى صوت، ثم بدأت الأخبار تتوالى من وكالات الأنباء التي بالكاد كان يلتقطها المذياع الذي بحوزتنا.

طبعا الفرحة كانت لا توصف فقد انزاح هم وغم جثم على صدر الوطن وكتم أنفاسنا طوال ستة أشهر، وكم كنت أتمنى وأعتقد أن كل من في العنبر كان يشاركني هذا التمني بأن أشهد يوم تحرير الوطن العزيز وأرى فيه جيش الاحتلال وهو مندحرا يجر أذيال الخيبة والذل والعار من ورائه، نعم فرحنا فرحا عظيما ولكنها كانت منقوصة وذلك لأننا لا نستطيع أن نعبر عن هذه الفرحة فالتحرير معناه هزيمة المحتل الذي نحن في قبضته الآن، ولهذا هنئ بعضنا البعض في هدوء (سكيتي) لئلا نلفت أنظار الحرس.

بعد خبر التحرير بيوم أو يومين دخل علينا قائد المعسكر لأول مرة ليخبرنا عن قرار صدر من القيادة القطرية لحزب البعث يفيد بأن جميع المواطنين الكويتيين الموجودين على أرض العراق أحرار، وقد أكمل القائد القرار بإعلان مضحك "اللي يريد يبقى بالعراق خل يسجل اسمه" ، طبعا ردة الفعل لا أحد (NO one) ، ثم ختم القائد بأمر مضحك آخر وهو محاولة التأسف "خو ما قصرنا معاكم" ، ومن الطبيعي في الظروف التي كنا فيها أن يكون ردنا "لا رايتكم بيضة" ، نقول هذا في العلن بينما في ما بيننا نقول هي سوداء كالفحم بل هي أشد سوادا، وفي النهاية قال القائد نحن في انتظار الحافلات التي ستصل اليوم لتنقلكم إلى الكويت، ولكن هذا الانتظار طال لمدة زادت عن الأسبوع ، لماذا ؟

الانتفاضة الشعبانية

خلال أيام الاحتلال كنت المرافق اليومي لأستاذنا الكبير المرحوم محمد خضير حبيب (بو مصعب) رحمه الله تعالى، وكنت كثير الحوار والنقاش معه عن مجريات الأحداث السياسية والعسكرية الحالية والمستقبلية، وبنظرته الثاقبة للمستقبل كان يتوقع تصادم الجيش مع الشعب عند انسحابه من الكويت، وهذا ما أخبرت به من كان حولي في العنبر من الأخوة، وهذا ما وقع فقد بدأنا نسمع أصوات المدفعيات والدبابات من قريب، وكذلك وكالات الأنباء بدأت تنقل أخبار عن تصادم الجيش بالشعب وهو الذي سمي فيما بعد بالانتفاضة الشعبانية.

والذي أكد لنا هذه الأخبار النائب والوزير السابق احمد باقر لما رافق أحد الأسرى للمستشفى، فقد كان أحد الأسرى وهو من عائلة القلاف في عنبرنا أصيب بفشل كلوي نتيجة تعذيبه الشديد قبل اعتقاله للأسر، والظروف المعيشية الصعبة التي كانت يعيشها الأسرى زادت من آلامه التي جعلته يئن ويصرخ منها، وبعد إلحاح متكرر منا على قائد المعسكر ليأخذوا هذا الأسير للمستشفى وافق على أن يرافقه أحد منا، فتطوع النائب السابق أحمد باقر جزاه الله تعالى خيراً ليرافقه إلى المستشفى باعتبار تخصصه الصيدلاني، وبالفعل تم نقلهم إلى المستشفى بسيارة لنقل البضائع مكشوفة (وانيت) ، وصف أحمد باقر الحالة بعد عودته أن الجرحى متكدسين في الممرات وجثث القتلى مرمية بعضها على بعض.

الاتصال بالقيادة القطرية

لهذا مر يوما بعد يوم ونحن ننتظر الحافلات ولا من جديد، وحسب ما قيل وسمعت به أن قائد المعسكر أخبر بعض الأسرى أن القيادة القطرية انشغلت عنكم بمواجهة الانتفاضة الشعبانية، وإذا اردتم أن يطلق سراحكم لا بد من تذكيرهم بأمرنا، وهو مستعد للقيام بهذه المهمة طبعا ليس لأجل سواد عيون الأسرى بل مقابل الدرهم والدينار، وقد قيل أنه تم جمع مبلغ وقدره 10000 دينار عراقي من الأسرى من مختلف العنابر ليقوم قائد المعسكر بهذه المهمة، وهذه رواية انتشرت بين الأسرى وفي وقتها لم يكن الوضع يسمح للتحقق من صحتها، ولعل الذي عزز صحتها هو أن الفرج جاء بعد انتشار هذه الرواية مباشرة.

كان الوضع لا يوفر خيارات متعددة للتفاوض لأن مع طول الانتظار سوف نكون مهددين بانتشار الوباء بيننا، فقد وصلت حالتنا إلى حالة مزرية فسوء التغذية والبرد القارس والجو الغائم الرطب والمستنقعات المائية المنتشرة حولنا والإرهاق الذي اصابنا يقلل من مناعة الجسم ويجعله فريسة سهلة للوباء، وفي هذا المجال اتذكر أن لما أبدى الأسرى تذمرهم من هذه الحالة المزرية التي تتم فيها معاملتهم دخل علينا قائد المعسكر ليستمع للشكاوي وطلب أن يكون المتحدث واحد، فقام نزار خاجة وعرض عليه كل الشكاوي فكان جزاءه اداء تمارين رياضية خارج العنبر وهو عار من جميع ملابسه ماعدا ما يستر به عورته في جو ماطر بارد ليكون عبرة لمن يعتبر.

في صباح يوم الخميس 8/3/1991م كالعادة التي تكررت مرارا دخل علينا قائد المعسكر ليخبرنا بأن الحافلات ستصل اليوم لتنقلكم للكويت، لم نتفائل خيرا بهذا الكلام لأنه تكرر دون أي جديد (وهاي مثل أختها) ، وقلنا للقائد بأننا على استعداد للذهاب للكويت سيراً على الأقدام وكل ما نحتاجه هو دليل منكم يمشي أمامنا ونحن نتبعه، طبعا كان الرد هو الرفض ولابد من انتظار الحافلات لتصل. مرت الدقائق وورائها الساعات وانتصف النهار فخاب الأمل وطاح الحظ (لا خبر ولا جفية.. لا حامض حلو ولا شربت) .

إنها الحافلات

وبعد أن مرت الساعة الأولى بعد منتصف نهار ذلك اليوم ودخلنا في الساعة الثانية منه فجأة سمعنا صوت تصفير وتصفيق ممن هم في مقدمة العنبر، ما الخبر ؟ أنها الحافلات لقد رأوها دخلت المعسكر، في بداية الأمر لم نصدق والكل هجم على الشبابيك المفتوحة على الساحة إياها للتأكد، بالفعل إنها الحافلات فعمت الفرحة وضج العنبر، فمنا صفق وصفر ومنا من هلل وكبر ومنا من صلى على محمد وآل محمد، ومنا من نضم أهازيج هجاء مضحكة (هوسات) لصدام وأزلامه ولكنه رددها بإخفات بين الأسرى.

وقفت الحافلات أمام عنابر الأسرى ولا أذكر عددها ولكنها كانت تتكون من حافلات لنقل الركاب (باصات) وشاحنات لنقل البضائع (نساف ولوري و سطحه مقطورة) ، كان نصيب حظي العظيم أن أركب حافلة ذي السطحه المقطورة، وأعتقد أن عدد من كان معي في هذه الشاحنة يفوق المائتين لأن العنبر الذي كنا فيه يزيد عدده عن 350 أسيراً، وكل هؤلاء ركبوا في حافلتين ركاب (باصين) والشاحنة التي نحن فيها.

رغم تكدسنا في الحافلات والشاحنات العسكرية التي جاءت لتنقلنا كتكدس سمك السردين في العلب إلا أنها لم تستوعب جميع الأسرى، ولهذا بقيت مجموعة من الأسرى ليس لديها مكان في الحافلات أو الشاحنات وقد أبلغوهم بأن قافلة الأسرى سوف تتحرك وعليهم الانتظار حتى تصل حافلة في وقت لاحق لتنقلهم، ولما علم الأسرى الذين هم في الحافلات والشاحنات تعالت أصواتهم بالمطالبة بأن يسمح لمن بقية من الأسرى بالركوب معنا، فمهما وصل إليه الأمر من معاناة سوف لن تكون أكثر من ما مررنا به من معاناة في رحلة العذاب هذه، ولكن الله سلم فبينما نحن في هذه الحالة وصلت حافلة إضافية و ركب بقية الأسرى.

إلى الكويت

وأخيرا تحركت بنا القافلة ولكن هذه المرة ليس كالعادة لا نعرف إلى أين متجهين، هذه المرة متجهين إلى الكويت بعد طول انتظار وبهذلة. نحن الذين في الشاحنة كنا وقوفا طوال الطريق ولأن ليس هناك ما يمكن التمسك به لنثبت  فقد ترنحنا ترنح السكارى واصطدمنا ببعض عدة مرات، فأكيد ان قيادة سيارة اللموزين تختلف عن قيادة شاحنة عسكرية لا يفرق سائقها بين الغنم والبشر فهو في التعامل معهم سواء.

في رحلة الإياب لم نرى شيئا لأنها كانت في ليل ذات ظلام دامس، أما رحلة الذهاب فقد غادرنا المعسكر في شئ من النهار ولذلك رأينا ما فاتنا رؤيته في الإياب، أول ما رأيناه عند خروجنا من بوابة المعسكر سيارة نقل مياه (تنكر) وهي نفسها التي كانت تأتي بالماء لتفرغه في خزان الماء إياه بجانب الساحة إياها المتعددة الأغراض، كانت هذه السيارة واقفة بجانب مستنقع مائي تملئ خزانها منه فعرفنا مصدر الماء الذي كنا نستخدمه. وبعد أن بعدنا عن المعسكر بدأنا نرى آثار دمار القصف الجوى وهي كالمناظر التي نشاهدها في الأفلام الحربية، مباني مهدمة وهوائيات التلفون مع أبراج الكهرباء متمددة على الأرض وأسلاكها مقطعة، جسور مدمرة وقد أستعيض عنها بجسور مؤقتة أو بدفن الترعة بقدر طريق لمرور السيارات عليها، و من ضمن غرائب ما رأينا وكل ما رأيناه غريب بالنسبة لنا شاحنة عسكرية معلقة في الهواء بجسر مدمر.

لم يتسنى لنا رؤية المزيد من هذه المشاهد لأن سرعان ما حل علينا الليل أثناء المسير، وحسب ما أذكر أنه لم تستغرق أكثر من ساعة للوصول لأول نقطة حدودية وقفت عندها القافلة، وقد كانت هذه النقطة هو جسر لا يبعد عن مركز صفوان (الحدود العراقية) أكثر من 3 كيلو، وهو مفترق طرق بين طريق البصرة وبين الطريق المتجهة إلى المناطق الجنوبية والعاصمة بغداد، وكالعادة لا ندري لماذا الوقوف ؟ ولكننا كنا نعلم أننا لا نبعد عن الوطن الحبيب إلا بضعة كيلومترات لا تزيد بالكثير عن خمسة.

بعد الانتظار تحركت القافلة ولكن مسيرها هذه المرة كان بطيئا وليس بالسرعة التي اعتدناها منذ انطلاقنا من المعسكر، وبينما كنا نقترب شيئا فشيئا من الجسر كنا نرى اضاءة قوية من بعد الجسر وقد حول الليل إلى وضح النهار، وكذلك كنا بين الفينة والأخرى نسمع صوت تصفيق وتصفير حادين مما جعلنا نرتقب بلهفة أن يأتي دورنا لنعرف مصدر الإضاءة، ولماذا التصفيق والتصفير ؟! استمرت حال الترقب واللهفة إلى أن مررنا نحن من تحت الجسر وإذا بآليات عسكرية لقوات التحالف محتشدة على جانبي الطريق وقد أنارت كل أضوائها، وذلك احترازا من أي خديعة حمقاء طائشة تقوم بها قوات الاحتلال في آخر لحظة، وبشكل لاشعوري كررنا الحالة التي مررنا بها عندما رأينا الحافلات والشاحنات تدخل معسكر أبو صخير.

وصلنا الكويت

استمرت القافلة بالمسير ولم تقف إلا بعد عبور مركز حدود العبدلي (الحدود الكويتية) واجتيازه بأربع كيلومتر، عندها فقط تأكدنا من إطلاق سراحنا فتنفسنا الصعداء الممزوج بدخان احتراق آبار البترول، وتكرر رؤية آخر مشهد شهدنا عند خروجنا من الكويت وكان هو أول مشهد نراه عند دخولنا الكويت، أتدرون ما هو هذا المشهد ؟ ألسنة النار الملتهبة لآبار البترول وهي تحترق كانت هذه النيران في وسط الليل المظلم كالشموع في ليلة عيد ميلاد.

http://www.bashaer.org/php/images/kw8.jpg

 

ظل تقييد الحركة يلاحقنا حتى على أرض وطننا الغالي وكم كنا نتمنى كأسرى تم تقييد حركتنا في العنابر التعيسة أن ننطلق في صحراء الوطن، ولكن لأسباب أمنية و خوفا من الألغام تم تحذيرنا من تجاوز حركتنا الطرق المسفلتة.

كنا متعبين ومرهقين عند وصولنا لأرض الوطن ولكن حالة الفرحة والارتياح والاطمئنان التي عمتنا طغت على التعب والإرهاق، ولكنها لم تطغى على البرد القارس الذي جعلنا نرتجف رجفا شديدا (مثل رجفة الماكينة) ، فلقد كانت درجة الحرارة قريبة من الصفر أو هي أقل، ولم يكن معنا ما يقينا من هذا البرد، والقوات الكويتية بجلالة قدرها لم تكن مستعدة لنا بغير الحافلات التي جاءت لتنقلنا لداخل الوطن، وأتذكر أن البعض استفادة من تجربة الاعتقال بأن أخذ معه من المعسكر بطانية احتياطا لمواجهة مثل الحالة التي وقعنا فيها، فكنا نجتمع كل عشرة ونتغطى بالبطانية كخيمة لتقينا من البرد.

ولعدم الاستعداد لاستقبال هذا الكم من الأسرى سادت الفوضى في إجراءات التحقق من هويات الأسرى والكشف الصحي عليهم، فتم إلغاء الكشف الصحي فكيف لخيمة واحدة بخمسة أطباء بممرضيهم أن تستقبل دفعة واحدة 1350 أسير ؟ وطالت إجراءات التحقق من هويات الأسرى لأن الذي يقوم بإجراءاتها عدد محدود جداً من العسكريين الكويتيين، ولهذا قضينا طوال تلك الليلة في العراء على طريق العبدلي، وحمدنا الله تعالى أن كانت تلك الليلة ساكنة فلا رياح تعصف بنا ولا مطر ينهمر علينا وحسبنا البرد القارس (اللي فينا كافينا) .

وبعد أن تم الانتهاء من التحقق من هويات جميع الأسرى ركبنا الحافلات، و في هذه المحطة تفرقت المجموعة الذي حافظنا على تماسكها من سجن الأحداث إلى أن أطلق سراحنا، وقبل أن تتحرك قافلة الأسرى واجهتنا نفس المشكلة التي واجهتنا في معسكر أبو صخير وهو بقاء مجموعة من الأسرى ليس لهم مكان في الحافلات، وجهت هذه المجموعة من الأسرى ملامة للقوات الكويتية لعدم استعدادهم لاستقبال الأسرى، وهددوهم بالمشي سيراً على الأقدام إلى الكويت وحصل شد وجذب بين الطرفين، ولا أذكر كيف تم حل هذه المشكلة وأظن وبعد اتصالات حثيثة تم توفير حافلة اضافية لهم والتحقوا بقافلة الأسرى.

عند مركز المطلاع

وأخيراً باسم الله مجراها ومرساها وبالصلاة على محمد وآل محمد تحركت قافلة الأسرى وكانت الشمس قد أشرقت وبان الصباح، ولكن الفرق في هذه المرة عن المرات السابقة إننا كنا نعرف إلى أين نحن متجهين، إلى وطننا الجريح، إلى كويتنا الثكلى، إلى موطن الأحرار، إلى الأهل والأحبة، إلى حيث يحترم فيها حقوق الإنسان، نعم لقد عادت إلينا عزتنا وكرامتنا بعد أن فقدناها لمدة ستة اشهر، وعادت إلينا إنسانيتنا بعد أن سحقت في الأسر كنا نساق فيها كسوق الغنم لا نعرف لماذا اعتقلنا ؟ لا نعرف ما هو مصيرنا ؟ لا نعرف ما هي وجهتنا ؟ لا نعرف أين محط رحالنا ؟ لا نعرف متى يطلق سراحنا ؟

ومن الطبيعي أن من تمر عليه أكثر من أربع وعشرين لم يحظى فيها لو بلحظات نوم (الله عاد على النوم اللي في العنابر التعيسة) أن يدخل في صراع مع النعاس، وهذا ما كان حالنا عليه طوال طريق العبدلي تارة نغلب النعاس وأكثر منها كان هو يغلبنا لذا ترى رؤوسنا تتأرجح (ساعة تروح وساعة تيجي) . ظللنا على هذا الحال إلى أن بدأنا نقترب من مركز المطلاع، وهو مركز حدودي قديم يقع على سلاسل تلال المطلاع المرتفعة التي تطل على الكويت و أقرب مدينة لهذا المركز هي الجهراء ويبعد عن مدينة الكويت 50 كيلو متر، ويعد المنفذ الوحيد الذي يمر من خلاله طريق معبد لا ثاني معه يصل إلى الحدود الكويتية العراقية وهو طريق العبدلي.

عند اقترابنا من مركز المطلاع بدأنا نلاحظ تزايد عدد الآليات والسيارات المدمرة، دبابات ومصفحات، شاحنات وصالونات، عسكرية ومدنية، والمدنية كانت المسروقة ورأينا كذلك بجانبها المسروقات الأخرى من ملابس وأجهزة ومعدات من الكويت، فالله سبحانه وتعالى أراهم جزاء ما سرقوا في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب أليم.

http://www.bashaer.org/php/images/kw3.jpg

إلى هذا الحد كان المشهد متوقعاً ومقبولاً ولذا كانت ردة الفعل على قدر المشهد فرحة لكنها لا تشفي غليل ستة أشهر من الذل والقهر، ولكن هذه الفرحة تحولت إلى ذهول في بداية المشهد الذي رأيناه عند عبورنا مركز المطلاع، ثم تحول الذهول إلى فرحة عارمة كان فيه شفاء غليل ستة اشهر من الذل والقهر. ولقد أدخلت هذه الفرحة البعض منا إذا جاز التعبير في حالة هستيرية من الهتافات، كان من هذا البعض الأخ العزيز المرحوم سيد زأهد الذي كان جالسا بجانبي الذي ما أن رأى المشهد حتى قفز وأخرج نصف جسده من نافذة الحافلة وأخذ يهتف بهتافات مضحكة، ومن خوفي عليه من أن يقع فقد أمسكته مستعينا بعامود النافذة، ما هو هذا المشهد الذي قلب كياننا ؟

لقد وصف الله سبحانه وتعالى أصحاب الفيل بعد أن قصفهم بحجارة من سجيل بالعصف المأكول، والعصف المأكول هو النبات الجاف المتهشم (التبن) الذي طحنه الحيوان بأسنانه، وفي هذا المعنى إشارة إلى حجم الدمار الذي لحق بأصحاب الفيل وحالة الضعف التي صاروا عليه هؤلاء المهاجمون الطغاة. هذا هو ملخص المشهد الذي شاهدنا عند عبورنا مركز المطلاع فقد كان عبارة عن 9 ك2 من الآليات والسيارات العسكرية والمدنية المدمرة والمطحونة طحان، وقد تزاحمت في هذه الساحة على جانبي طريق العبدلي لدرجة انك لا تكاد ترى تراب الأرض، ما القصة؟

القصة هي أن قوات الاحتلال في ليلة انسحابها من الكويت أوقعت نفسها في مصيدة كان فيها هلاكها وصارت كالعصف المأكول، فبعد أن انسحبت من المدن والمناطق واتجهت إلى الحدود العراقية لم يكن لها منفذ تسلكه غير طريق العبدلي ولهذا انحشرت كلها فيه فأصبحت صيدا سهلا لطيران قوات التحالف ، كيف ؟

بدأ طيران التحالف بقصف المقدمة وبذلك أوقف تقدم رتل من الآليات والسيارات بطول عدة كيلومترات وبعرض اتجاهين الطريق السريع (بمجموع 12 صف إذا ما أضيف طرق الأمان) ، ورتل بهذا الحجم لا يمكنه تحت القصف المتواصل أن ينسحب إلى الوراء لأنه سوف يصدم بعضه ببعض وهذا ما حصل، لم يبقى له خيار إلا الانتشار في الصحراء الواقع على جانبي الطريق، وحتى هذا الخيار لم يفده لأن المنطقة محدودة بسلاسل من التلال وهي صحراوية مكشوفة فلا زرع فيها ولا سكن ولا وديان ولا سهول حتى تختبئ بها، وشهدنا فيما بعد التحرير الأفلام الوثائقية لهذا المشهد والذي بدا فيه وكأن الطيران في طلعات تدريبية أو كالذين يلعبون لعب الأطفال (أتاري) .

في مستشفى الجهراء

بعد ان اجتزنا هذا المشهد بوقت قليل وصلنا إلى مستشفى الجهراء وقد كانت مكتظة بالأهالي الذين جاؤوا على أثر اعلان خبر اطلاق مجموعة من الأسرى الكويتيين ووصولهم للكويت، والكل كان ينظر إلى الآخر ويبحث وهو في شوق ولهفة، نحن الأسرى الذين في الحافلات، وهم المتجمهرون في مواقف وساحات المستشفى عسى أن يرى كل أهله وأحبته .

مرت الحافلات وسط الزحام الشديد حتى وصلنا إلى مبنى المستشفى، وفي المستشفى التي منعت دخول غير الأسرى أجريت لنا بعض الفحوصات الطبية وقد كانت إجرائية أكثر منها صحية، وبعد هذه الإجراءات تم تسليمنا شهادة تثبت يوم أسرنا ويوم اطلاق سراحنا.

اللقاءات الثلاث

المشهد الأخير للأسر هو لقاء الأحبة وقد كانت كتلك التي نشهدها في الأفلام عناق بشوق ولهفة وبكاء من الفرح، اللقاء الأول مع شقيقي سيد كمال فقد كان في انتظاري وهو أول من رأيته من الأهل عند خروجي من مبنى المستشفى، وأول سؤال لي له عن والدي ثم عن زوجتي و أبنائي هل هم بخير ؟ وطلبت منه التوجه مباشرة وقبل الكل إلى والدي ليطمئنا ولأطمئن، وأثناء الطريق تغير الكثير وسبحان الذي يغير ولا يتغير، تركنا الكويت وهي بائسة تعيسة وعدنا لها وهي ضاحكة مستبشرة، تركنا الشوارع وهي خاوية تكاد تسمع دبيب النمل من سكونها وعدنا لها وهي مفعمة بالحركة والضجيج، تركنا المناطق وهي محاصرة بحواجز قوات الاحتلال وعدنا لها وهي محروسة بقوات الوطن.

http://www.bashaer.org/php/images/kw2.jpg

اللقاء الثاني كان مع والدي فعند وصولي لمنزل أخي سيد كمال رأيت الوالدة تنتظر عند باب المنزل وهي تبكي من الفرح، احتضنتني بشوق ولهفة وأنا أقبل يديها وجبينها ثم دخلت المنزل وإذا بالوالد ينتظر بالداخل وبنفس حرارة الشوق واللهفة قابلني بها، عند جلوسي أول ما طلبت شاي وقلت لهم أني لم أذق شئ غير الماء الآسن منذ ما يقارب العشرة أيام، ثم بدأت الوالدة تحكي كيف علمت بخبر وقوعي في الأسر وقد كان هذا بعد انسحاب قوات الاحتلال، وأنها أول ما سمعت بالخبر أخذت تبكي وتنوح ولكنها كتمت آلامها وأحزانها بعد ان شعرت بأن أجواء الهم والغم قد ساد المنزل، تقول رحمها الله "انتظرت إلى أن نام كل من في المنزل فتوضأت وأخذت السجادة والقرآن وصعدت إلى سطح المنزل، وبدأت أصلى تحت السماء وأدعي واضعة القرآن على رأسي أكرر يا راد يوسف ليعقوب اردد علي إبني" ، لقد كان هذا في شهر فبراير فقد كان الجو بارداً ممطراً.

اللقاء الثالث كان مع أسرتي.. الزوجة والأبناء الثلاث انتصار ذات التسع سنوات وفاطمة ذات السنتين وحمزة وقد كان عمره لا يتجاوز الستة أشهر لأنه ولد في 14/7/ 1990م أي قبل الاحتلال بأسبوعين، طبعا والسعادة والفرح واللهفة كانت تاج اللقاء عند وصولي للمنزل، وبدأ الأصدقاء والأحبة يتوافدون للمنزل للتهنئة بالسلامة بعد انتشار خبر اطلاق سراحي وكان أولهم أستاذنا المرحوم محمد خضير حبيب (بومصعب) ، وحدثني كيف أنه في أول يوم انسحاب قوات الاحتلال وقبل التأكد من الانسحاب اخذ سكيناً وذهب لأخي سيد كمال وقال له لنذهب إلى سجن الأحداث لنخلص سيد جابر، وطبعاً عندما ذهبوا إلى السجن لم يجدوا فيه أحداً.

http://www.bashaer.org/php/images/kw1.jpg

كنت قد ذكرت في المقدمة بأني خرجت في اليوم الذي تم فيه اعتقالي وهو يوم الجمعة الذي سبق التحرير في الصباح الباكر مع ابنتي انتصار من منطقة المنصورية إلى مشرف وتركت انتصار في بيت أخي سيد كمال على أن أعود لها في الظهيرة، ولكني لم أعد لأنه قد تم اعتقالي وبالتالي لم تعد انتصار إلى والدتها، وأكملت زوجتي المشهد بعد أن هدأ المنزل من المهنئين تقول:

"بعد أن تأخرت في عودتك مع انتصار وانقطعت الأخبار بسبب انقطاع الخطوط التلفونية وضاقت حركة الكويتيين بسبب انتشار خبر الاعتقالات من الشوارع، وقد جن الليل و انا انتظر وفي تلك الليلة لم أستطع النوم فقد كنت جداً قلقة وأحدث نفسي بأن المخابرات الصدامية سوف يعذبون انتصار أمامك لتخبرهم بما لديك من معلومات، وفي ضحى اليوم التالي وقد أصبحت الكويت مدينة أشباح لامتناع الكويتيين عن التنقل، أتى سائق تنكر فلسطيني (على معرفة بأخ زوجتي ) ليسأل ما إذا كنا بحاجة إلى شئ،، لما رأيته أخذت أترجاه ليذهب لمشرف ليعرف ما الخبر وقد قبل بعد الحاحي عليه بالطلب وقد رسمت له خريطة توضح طريق منزل سيد كمال، وعندما ذهب لم أكن أصدق بأنه سيقوم بالمهمة لأن الوضع الأمني كان في أعلى درجات التوتر أضف إلى ذلك شح وقود السيارات وكذلك السيارة التي كان يقودها هي خزان ماء ( تنكر) لا تصلح للمناورة لأي طارئ، ولكن المفاجأة كانت أنه عاد بالخبر بعد ظهر نفس اليوم وأخبرنا بخبر اعتقالك وبأن انتصار بخير وهي الآن في بيت خالتها في منطقة مشرف، فطلبت منه بأن يذهب إلى مشرف ليأتيني بانتصار وقد حاول الاعتذار ولكنه لم يصمد أما الحالة النفسية والمأساوية التي كنت فيها، ووعد بأن يذهب إلى منزله ويأخذ والدته معه ليأتيا بانتصار، وكتبت رسالة لأختي لتسلم انتصار لحامل هذه الرسالة".

 وقد تم هذا وعادت انتصار إلى أحضان والدتها قبل مغرب ذلك اليوم، ولم يطلب هذه الفلسطيني لقاء هذه الخدمة الجليلة جزاءاً ولا شكوراً .

هذا مشهد من مشاهد الاحتلال الآثم لوطننا العزيز الذي ابتلينا به أيما ابتلاء، وهو مشهد يبين كم أن الحرية والعزة والكرامة لا يشعر بقيمتها الانسان عندما يعتاد عليها.