الحلقة الأولى من ذكريات حج عام 1395هـ - 1975م

سيد رضا الطبطبائي - 10/03/2012م - 9:36 م

سارت القافلة طوال الليل الدامس المظلم، ولم تكن هناك خدمات على الطريق وكنا قد بدأنا رحلتنا هذه صباحاً ولم نصل إلى مكة المكرمة إلا صباح اليوم التالي، وقد قضيناها بالتهليل والتكبير والتلبية والدعاء والنظر إلى جمال السماء وروعة خلق الله تعالى للكون..


مجموعة من الرجال والنساء تقدر بحوالي 60 شخصاً التحقنا مع إحدى الحملات التي توفي صاحبها بعد ذلك رحمه الله تعالى.

كان من ضمن المجموعة " السيد عبد الله البحراني، يوسف غلوم، أسعد خريبط، أحمد لاري، بدر أسد، محمد المحميد، علي سردار، بدر أسد، عبد اللطيف المحميد، جاسم المحميد، محمود دكسن، المرحوم إبراهيم بن شيبة، كاتب هذه السطور، وآخرين سنتعرف عليهم من خلال الصور المنشورة في الموقع، وكان من بين الذين انضموا إلى مجموعتنا في بعض الفترات المرحوم عبدالصمد التركي ود. محمد الشمالي.

طبعاً المجموعة اكتملت في مكة المكرمة بعد المدينة المنورة، وتم إسكان المجموعة كلها في مبنى خاص قديم في مكة المكرمة لا يسع لجميع المنتظمين بالحملة مما أثار الاستياء من قبل الكثيرين منهم فضلاً عن أن الحملة لم تكن بالمستوى المطلوب، وغادرت ثلة من المجموعة المدينة المنورة باتجاه مكة المكرمة بعد أن تم التواجد في مسجد الشجرة لعقد الإحرام على متن شاحنات مليئة بالأثاث وأدوات الطبخ والخيم والأكل الخاص بالحملة واستقر الأخوة فيها وأخذوا مواقعهم فوق ما تحمل من أغراض ومواد و"دثره"، فالبعض منا لم يكن يرى منه سوى رأسه والبعض الآخر كان يرى وكأنه مستقر في الفضاء، وكان البعض منثيناً، وآخرون لا يعلمون كيف يجلسون ويأخذون مواقعهم فيها، أما في حالة استخدام السائق للفرامل كنا نخشى أن نجد أنفسنا وقد اقتلعنا من الشاحنة و"آخرتنا بالطريج يا للهول"، وزاد الطين بلة والطنبور نغمة انشغالنا بالحفاظ على السجاد والبسط ومطارح الإسفنج والتي كانت عرضة للقفز في الهواء خارج الشاحنة بسبب الرياح التي كانت غير مستقرة في كثير من الأحيان، وعلى كل حال فقد اختلط الحجاج مع الأثاث بطريقة تثير الضحك والكآبة، فالبعض لم يكن يرى الآخر والبعض الآخر كان فقط يطل برأسه والبعض لا ترى منه إلا رجله، أو رجل واحدة فقط أو يد واحدة، وكان البعض يشتكي من مضايقة "الجدور" له والألم الذي يصيب ظهره أو رأسه بسب ذلك أو بسبب "ملاس كبير" .

وكنا نسير في الطريق القديم، ولم تكن الطرقات مثل يومنا هذا، فالطريق السريع الحالي يعتبر جديدا وحديثاً بالنسبة لهذا الطريق القديم، وللعلم كان هناك طريقاً آخر يربط المدينة المنورة بمكة المكرمة قبل إنشاء الطريق السريع، أما الطريق الذي سلكناه كان قبل هذين الطريقين، وكان ضيقاً والحفر تشغل حيزاً واسعاً منه، وكان يضطر بين فترة وأخرى السائق للسير في الصحراء على جانب الطريق ليعطي مجالاً للسيارات المقابلة لكي تمر بسلام تفادياً لما قد يحدث نظراً لضيقه كما ذكرنا، وكان الظلام دامساً والسماء صافية بعد مغيب الشمس لأننا بدأنا المسير صباحاً، ولم نغادر الشاحنة إلا للفترات المخصصة للصلاة والأكل، كل ذلك كان يتم بهدوء تام في الطريق نظراً لقلة السيارات التي كانت تنقل الحجاج في تلك الأيام، وكان منظر الغروب رائعاً فكنا نرى الشمس وهي تشرف على الغروب، وكان الظلام يرتفع شيئاً فشيئاً ليملأ الكون ويستولي على كل شيء، ما عدا مصابيح بعض السيارات، وكانت السماء صافية والنجوم تتلألأ والنيازك أشبه في روعتها وجمالها بالألعاب النارية.. سبحان الله الخالق.

سارت القافلة طوال الليل الدامس المظلم، ولم تكن هناك خدمات على الطريق وكنا قد بدأنا رحلتنا هذه صباحاً ولم نصل مقصدنا (مكة المكرمة) إلا صباح اليوم التالي، وقد قضيناها بالتهليل والتكبير والتلبية والدعاء والنظر إلى جمال السماء وروعة خلق الله تعالى للكون.

نرجع قليلاً إلى الوراء ولكي نعطي صورة عما جرى معنا ونحن نغادر مطار الكويت متجهين إلى الأراضي المقدسة، وقبل أن نتوجه إلى سلم الطائرة حدث ما لم يكن بالحسبان حيث تم إبلاغنا في المطار من المسئولين في الخطوط السعودية بأن الطائرة سوف تغير اتجاهها وسوف تقصد مطار جدة بدلاً من مطار المدينة المنورة حيث كان الاتفاق بينها وبين الحملة، وكانت التذاكر قد أصدرت لنا وفقاً لذلك، ولكن في آخر لحظة أصبحنا أمام هذا الواقع الجديد، ولم نكن نملك إلا القبول به، وكان تبريرهم أن السلطات المختصة في السعودية قد أغلقت مطار المدينة المنورة وأمرت جميع الطائرات بالتوجه إلى مطار جدة ، وقد منعت منعاً باتاً هبوط أي طائرة في المطار الذي كان من المقرر أن نقصده، دب الهلع في أوساط الحجاج خاصة وكانت هناك مجاميع من الحجاج غير الكويتيين وكانوا أكثرهم من الديار المصرية مما يعني حرماننا من زيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وزيارة أهل البيت عليهم السلام ومجموعة كبيرة من الرموز الإسلامية المدفونين في روضة البقيع وفي مدينة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

دخلنا الطائرة وكل أخذ مكانه، وكنا أربعة في المقاعد الأمامية "يوسف غلوم، وأسعد خريبط، وأحمد لاري، وكاتب هذه السطور" أقلعت الطائرة في الفضاء واستقرت في مسارها منطلقين إلى مدينة جدة، أما نحن فلم نكن مستقرين بل متوترين لتغيير جهة الطيران، بعد قليل سمعنا قائد الطائرة يرحب بالحجاج على متن الخطوط السعودية، ويعلن بأن الطائرة سوف تتوجه إلى مطار المدينة المنورة في رحلة تستغرق حوالي الساعتين، هنا دوى صوتنا بالصلوات على النبي المصطفى وآله الطاهرين، كما تشجع الآخرون وأخذوا يكبرون ويهللون فرحين بالتوجه إلى المدينة المنورة كما كان مقرراً من قبل.

أكملت الطائرة مسيرها وبعد حوالي نصف ساعة، أعلن قائد الطيارة بأنه يعتذر عن الإعلان السابق حول توجه الطائرة إلى المدينة المنورة، وقال أنه سيتوجه إلى مطار جدة حسبما تم إبلاغ الحجاج المسافرين على هذه الرحلة، فتعالت صيحات الاعتراض، والتهليل والتكبير والصلوات مرة أخرى، ولكن بدون فائدة ولا نتيجة، حيث قال القائد بأن التعليمات قد صدرت له بالنزول في مطار جدة أما مطار المدينة المنورة فهو مغلق أمام جميع الطائرات ولا يستقبل أي رحلة متجهة إليه، وأن هذه التعليمات تشمل جميع الطائرات، وليست الطائرة التي تقلنا نحن فقط.

حطت الطائرة في مطار جدة، وتم الطلب من الحجاج النزول منها، ولكن بدأنا بالاعتراض والتهليل والتكبير مرة أخرى ورفض مغادرتها وبعد نقاش طويل مع طاقمها تم الطلب منهم التحدث مع المسئولين في المطار وصعد المسئول الطائرة وأخذ يطلب من الجميع مغادرتها وعدم البقاء فيها، وبأن العمال المختصين سوف يقومون بتفريغها من الشنط والحقائب، ولكن صيحات الاعتراض والتهليل والتكبير بدأت تدوي داخلها بصورة أشد وأقوى، وفضل أكثر الركاب ما عدا نفر قليل من الأخوة المصريين الذين بدأوا يرددون تهديد المسؤولين بتفريغ الطائرة من الحقائب و"حينزلوا الشنط" وتطورت الأحداث إلى أكثر من ذلك وأصبح الأمر نوع من التمرد على سلطات المطار وتعالت الأصوات بالصراخ والتذمر من سوء المعاملة، حيث أن الوجهة الأصلية لنا كانت المدينة المنورة وأن قائد الطائرة أكد على وجهتنا إلى هناك، وكيف يمكن لهم إجبار الحجاج على مغادرتها وهي رابضة في مطار جدة والمسئولين عن الحملة ينتظرونهم في المدينة المنورة، وكان إصرار سلطات المطار أنه لا يوجد حل آخر ولا بديل لذلك لأن الطائرة سوف تغادر إلى جهة أخرى بمسافرين آخرين سوف يستقلونها، ولم يكن ذلك كافياً لإقناعنا بمغادرتها واستمرت الصيحات والتهليل والتكبير والصلوات لفترة طويلة، والحوار المصحوب بالغضب من الطرفين، حتى قال احد المسئولين المحاورين بأن "السبيل الوحيد للخروج من الأزمة هو في يد أمير المنطقة وهو الوحيد الذي يملك مفتاح حلها" وفعلاً تم الاتصال به والتحدث مع مكتبه وأن الحجاج وخصوصاً القادمين من الكويت يتطلعون إلى معاملتهم بصورة أفضل وخاصة أن السعودية والكويت علاقتهما جيدة جداً، وأننا ننظر إلى السعودية كشقيقتنا الكبرى وأنهم أهل كرم وضيافة وعلى الأخص أننا حجاج بيت الله الحرام حيث نتوقع أن تكون المعاملة أفضل من ذلك، بفضل من الله سبحانه وتعالى تفهم أمير المنطقة الوضع وأصدر تعليماته بتجهيز طائرة أخرى لنقل الحجاج إلى المدينة المنورة، وانفرجت الأزمة وحلت المشكلة وانتقلنا إلى الطائرة البديلة ما عدا بعض الأخوة الذين غادروها من قبل بسبب "الشنط"، وبالفعل كانت الرحلة فريدة من نوعها وما صاحبتها من أحداث، وحطت الطائرة في مطار المدينة المنورة وفعلاً كان المطار مغلقاً ومظلماً، وتم إنزال الركاب وحاجياتهم بسرعة، وتوجهنا إلى السيارات التي كانت بانتظارنا لتنقلنا إلى المنزل المعد لنا من قبل الحملة لنقيم به والذي كان متواضعاً وقديماً ويقع في منطقة قديمة أيضاً بزقاق ضيقة وأرض ترابية وبيوت أكل عليها الدهر وشرب، وكنا ننتقل من ممر إلى آخر ومن قطعة إلى أخرى لكل نصل إلى الحرم النبوي الشريف، زرنا خلال المدة التي تشرفنا فيها بالتواجد هناك.. مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقبره الشريف وقبور أئمة البقيع عليهم السلام ومجموعة أخرى من الصالحين تضمهم روضة البقيع، وكثير من الآثار الإسلامية التي كانت موجودة في تلك الأيام مثل بيت الأحزان والسقيفة "كانت بمثابة مقهى صغير"، وزرنا مساجد المدينة المنورة المعروفة وبدر وقبور شهداء بدر وأحد وقبور شهداء أحد وسيدنا حمزة عليه السلام .

وكنا نمر من خلال تجوالنا في بعض شوارع المدينة المنورة على حجاج افترشوا الأرض في حالة يرثى لها، وخاصة القادمين من القارة السوداء، وكان يبدو عليهم التعب وهم يتعرضون لأشعة الشمس الحارقة، والغبار والأتربة تغطي وجوههم، وكان المرء يتعجب كيف وصل هؤلاء المستضعفين إلى المدينة المنورة وعن أي طريق وكم المسافة التي قطعوها وبأية وسائل، وأين ينامون ويأكلون ويشربون ويقضون حاجاتهم المختلفة، وكان الحزن والأسى يعتصرنا ونشعر بالشفقة لهؤلاء الذين تركوا ديارهم لكي يمتثلوا لأمر الله تعالى، وعلق احد الأخوة على حالهم الذي يرثى لها بأن رسوم هذه الحملة فقط 5 د.ك.

ولم يكن المسجد النبوي الشريف بهذه السعة والروعة والجمال الذي نشاهده في أيامنا هذه، وكان خدم الحرم يقومون بإغلاقه بعد صلاة العشاء ويخرجون المتواجدين فيه بطريقتهم الخاصة باستخدام العصي والحبال وأشكالهم كانت متميزة ولبسهم خاص، وعلمنا بعد ذلك بأنهم يعملون في هذا المكان المقدس وهم من خارج السعودية وتم استقدامهم من مناطق آسيا الوسطى لخدمة هذا المكان المقدس.

 

يتبع في الحلقة الثانية