فيسبوكواتسابتويترابلاندرويدانستجراميوتيوب





الشيخ علي حسن غلوم - 10/07/2010م - 11:02 ص | عدد القراء: 2116


نفحاتٌ من رَوْحِ الجِنان تلفُّ المكان.. وعِطرٌ من أريج رياضِها يملأ الأنفاس.. وخشوعٌ قدسيّ يُلقي بظلالِه حيثُ امتدّ.. وهمَساتٌ غيبيّة تتهادى في الأرجاء.. وفي ركنٍ من الحُجرة البيضاء نورٌ يتلألأ.. ويشدُّ القلوبَ إلى حيث يرقد ذلك الجبلُ الأشمّ.. وهو يشقّ بعليائه عِنانَ السّماء.. شموخٌ لم يعرف معنى الانحناء إلا حين يختلي بخالقه.. وعزٌّ لم يعرف الهوانَ إلا في سجود الصّلاة.. وسموٌّ لم يعرف دموع التذلّل إلا في حروف الدّعاء.. وتراتيل السَّـحَر..

وفوق ذلك الطُّورِ الشّامخ، روحٌ تُطِـلّ على أحبابِها وهم يُفيضون مشاعرَ الفِراق المستحيل على (السيّد) الذي طالما احتضنهم بقلبه الكبيرِ الكبير.. فلم يشعروا معه بغُربةٍ قد تأتي بها هذه اللّحظات الموحشة..

روحٌ مازالت تُفيض عليهم دفءَ الأبوّة.. وسكينةَ النَّفس.. وطمأنينةَ الإيمانِ بقدر الله.. وعذوبةَ الكلمات الحانية التي ما انفكّ يكرّرها: إني أحبّكم.. في الله.. وفي الإسلام.. أنتم أهلي.. وأنتم أحبّتي.. روحٌ أحبّت الإنسان الّذي يختلف معها.. كما أحبّت الإنسان الذي يتّفق معها.. لأنّكم ـ هكذا كان يؤكّد ـ لا تملكون أن تدخلوا قلوب الآخرين إلا إذا فتحتم قلوبَكم لهم..

روحٌ ما زالت تمسحُ بأناملها على رؤوس الأيتام في مبرّات الخير.. وتملأ فراغَ نظراتِهم بعطاءٍ تجاوز ما فقدوه بموتِ الآباء.. ونظَّرَ زهرةَ حياتِهم الّتي أوشكت على أن تذبُـلَ في زحمة الأثَرة.. فرسمَ على شفاههم ابتسامةَ الأملِ في الحياة.. والتطلّعَ إلى مستقبلٍ مشرق.. ودفعَ كلَّ إنسانٍ يحمل بذرةَ الخيرِ في نفسه إلى العطاء في هذا الطّريق.. كان يقول: (مؤسّسات جمعية المبرات الخيرية لكم جميعاً، لسنا وحدنا الذين نتحمّل مسؤوليّتَها، هي أمانة الله التي حمَّـلَناها لنحملَها إليكم. قد لا يستطيع أحدُكم أن يعطي، ولكنّه يستطيعُ أن يَـدُلَّ على العطاء، ويستطيعُ أن يجعل النّاس يعيشون العطاء).. هكذا قال أبو الأيتام.. وبهذا العنوان عرفوه.. وبمشاعر الانتماء إليه أحبُّوه..

روحٌ ما زالت تتسمّع وقْعَ أقدام المستضعفين والمحتاجين.. وهم يفدون على صاحب القلب الكبير ليبثّوا إليه همومَهم.. ويشكوا إليه صنيعةَ الزّمان.. فقد كانوا يؤمنون أنهم الأقربُ إلى قلبه.. فيسبقَهم برأفته.. ويلملمُ لهم كبرياءهم الذي حطَّمه عِـوَزُ الحاجة..

روحٌ ما زالت تتطلّع إلى سلاحِ المقاومين.. وأزيزِ رصاصاتِهم وهي تمزّقُ صدورَ الصّهاينة الّذين أرادوا أن يحطّموا كبرياءَ جبلِ الصّمود والشّهداء.. جبلَ عامِل.. وضاحيةِ البطولةِ والفِداء.. فرجعوا صاغرين يجبِّن بعضُهم بعضاً.. ويلعنُ آخرُهم أوّلَهم.. روحٌ بَنَت أجيال الإباء.. وعلّمتها كيف تقول (لا) للمحتلّين.. و (لا) للمستكبرين.. و (لا) للظّالمين.. و (لا) للمعتدين.. فنهَلَت من مدرستِه معالمَ ثورةِ أبي الأحرار.. وانطلقت في ميادين الصّراع تحطّمُ الأصنام.. وتحقّق الانتصارات.. وتقدِّمُ القرابين.. إنها الرّوح التي عشِـقَت وقْعَ أقدامِ المقاومين الرّاسخةِ في الدّفاع عن الكرامة والعزّة والشّرف.. روحٌ حسينيّة شحذَت هِممَهم.. وقَوّت عزائمَهم.. (أيّها البدريّون).. هكذا خاطبهم: (أيّها البدريّون.. أيّها المجاهدون في خيبرَ الجديدة، الّذين حملوا الرّاية، فكانوا ممن أحبوا الله ورسولَه، الذين يكِرُّون ولا يفِرُّون.. إنّ جهادكم سوف يصنع للعرب والمسلمين والمستضعفين المستقبلَ الجديد).. فكان من آخر كلماته أن قال: (لن أرتاح قبل أن تسقط إسرائيل)..

روحٌ مازالت تأمَـلُ في يومٍ تجد فيه الوحدةُ بين المسلمين ـ على اختلاف مذاهبهم ـ طريقاً سالكةً.. ومورداً معبَّداً.. لأنها ـ حسبَ (السيد) ـ المسألةُ التي تتقدّم على ما عداها من أولويّات.. ولأنّ الفُرقةَ لا تخدم إلا العدوَّ المشترك.. ولأنّ الإساءةَ إلى مسار الوحدة تمثِّلُ إساءةً إلى الإسلامِ نفسِه.. وعلى المسلمين أن يعملوا من أجل القيام بمشاريعَ وحدويّة حقيقيّة.. فكراً وسياسةً واقتصاداً واجتماعاً..


روحٌ ما زالت تفتح للعطشى مناهل العلم الغزير.. والفكر النيِّر.. والأدب الجمّ.. من أصالةِ الإسلام.. وحركة العقل.. وفيوضات الوجدان الإنسانيّ.. في عمقِها القرآنيّ.. ومنهجِها النّبويّ.. وبلاغتِها العلويّة.. وواقعيّتِها المتجدّدة..

فقد كان (السيّدُ المرجعُ الفقيه).. الذي لم يرَ المرجعيّةَ عُنواناً يضادُّ حركتَه بين النّاس ليعزلَه عنهم.. أو يعرقلُ مسيرةَ العطاء العلميّ والرّوحيّ في الآفاق الرّحبة.. أو يؤطّرُه في إطارٍ فقهيّ محدود.. أو يحرِّمُ عليه تعاطي السياسةَ في عناوينها الكبرى.. أو يحصرُه فيما قدَّمه الماضون وفق ما فرضته عليهم الظّروفُ التي عاشوها.. والبيئةُ التي أحاطت بهم.. بل كانت المرجعيّةُ العنوانَ الذي انطلق من خلاله ليقدِّم للنّاس.. كلّ النّاس.. فقهَ الحياة.. من المنبع الأصيل.. وفي إطارها المتغيّر بتغيّر الزّمن والظّروف.. فقد كان يرى أنّه قد (تحرّكت ذهنيّة التنمية في المسائل الفقهيّة في مواجهة كلِّ المتغيّرات على صعيد المشاكل الإنسانيّة في الواقع المعاصر المتطوّر.. إنّنا نجد في مفردات الشّريعة الكثيرَ من التّشريعات التي تدعو إلى العمل المنفتح على كلّ حاجات الحياة)..

وكان (السيّدُ المرجعُ السياسي) الذي تلجأ إليه أعلامُ السياسة، ليرسم لهم المشهد الحاضر..

والمشهد المستقبل.. وليقدِّم لهم النّصح من موقع المسؤولية.. وبالروح الأبوية التي تريد للجميع أن يدركوا أن السياسة تعني إقامة العدل.. والموازينَ القسط بين الناس.. والتي تريد للجميع أن يوظّفوا مواقعهم والعناوين التي يحملونها لرفع الظلامات عن المحرومين.. وتأمينِ الحياة الكريمة للناس..

وكان (السيّدُ المرجعُ الإنسان).. صاحبَ التواصلِ الدائمِ مع الجميع.. والحوار المنفتحِ على الكلّ.. إذ لم تمثِّل الانتماءاتُ المتباينةُ بالنّسبة إليه أيَّ عُقدةٍ أو عائقٍ عن الانفتاح على الآخر.. بل كان هو المبادر لدعوة الجميع إليه بكلّ محبَّة وأريحيَّة.. ليستمعوا إلى خطابِ العقل.. خطابِ القرآن.. خطابِ الإسلام.. وليحاوروه فيما شاؤوا.. فليس في السؤال شيء محرّم.. وليس في المعرفة شيء تافه..


روحٌ ما زالت تشتاق إلى القلم الذي عشِق أنامل (السيد) الذي أعطى للكلمة عمقاً في المعنى.. وامتداداً في الحياة.. وحركةً في الواقع.. القلم الذي لم يهدأ.. حتى حين احتضنه فِراشُ المرض.. قلمٌ خطّ أسفارَ (السيد): من وحي القرآن.. وعرفانُ القرآن.. والحوارُ في القرآن.. وخطواتٌ على طريق الإسلام.. وآفاقُ الرّوح.. وفقه الشّريعة.. وفقهُ الحياة.. وتأمّلاتٌ إسلاميّةٌ حول المرأة.. ودنيا الشّباب.. والحوارُ الإسلاميّ المسيحيّ.. وحركةُ الأنبياء.. وعليٌّ ميزان الحقّ.. والزهراءُ القدوة.. ومن وحي عاشوراء.. وفي رحاب أهل البيت.. والسلسلة تطول وتطول.. لتقدّم للبشريّة رسائل المعرفة.. ونبضَ الحياة..

إنها الروحُ الخالدة التي احتضَنَت كلَّ ذلك الواقع بحلاوته ومرارته.. بعنفوانه وتردّيه.. بإيجابيّاته وسلبيّاتِه.. بانفتاحه وبعُـقَدِه.. فقدّمَـت له الكثير دون أن تعرف معنى الراحةَ إلا في العمل والإخلاص.. ومعنى الغِنى إلا في التّقوى والعلمِ والقِـيَم.. فكانت النفسَ المطمئنّةَ التي أذِنَ لها الرّحمنُ أن ترجعَ إليه.. فأسلمت أمْرَها إلى الله.. وفاضَت إلى بارئها وهي تردِّدَ آخر كلماتِ (السيّد).. الله أكبر.. الله أكبر..



التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقعالتعليقات «0»


لاتوجد تعليقات!




اسمك:
بريدك الإلكتروني:
البلد:
التعليق:

عدد الأحرف المتبقية: