فيسبوكواتسابتويترابلاندرويدانستجراميوتيوب





الشيخ محمد مهدي الآصفي - 10/11/2015م - 10:50 ص | عدد القراء: 2054




(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً)

 

رحم الله العبد الصالح أبا مصعب فقدناه وساحتنا في أمس الحاجة إلى أمثاله من المؤمنين العاملين الذين أتاهم الله تعالى الوعي والبصيرة وكفاءة العمل وخبراته ومواهبه.

 

لقد أختبر أبو مصعب – رحمه الله تعالى – العمل والساحة أكثر من ربع قرن كان خلالها في وسط الساحة متصدياً للعمل، وتوعية الشباب وتوجيههم وتثقيفهم ومواجهة الفتن، فكسب خلال هذه الفترة خبرة واسعة للعمل لله سبحانه وتعالى، والعمل لله سبحانه وتعالى في وسط المجتمع عمل صعب، عسير لا يحسنه ولا يؤديه حق الأداء إلا من كان ذا حظ عظيم من عباد الله الصالحين.

فليس كل الناس يملك الوعي الذي يؤهله للعمل، وليس كل من يملك الوعي يعمل، وليس كل من يعمل يخلص في عمله لله سبحانه وتعالى، وليس كل من يعمل لله سبحانه وتعالى يملك خبرة العمل، وليس كل من يملك خبرة العمل يملك أخلاقية العمل وما يتطلبه من سعة صدر وقوة وحزم ولين.

 

وقليل من الناس من يعمل، ويملك وعي العمل وخبرة العمل وأخلاقية العمل والإخلاص في العمل وكان المرحوم أبو مصعب من هذه القلة التي تعمل وتملك مؤهلات العمل من خبرة ووعي وأخلاق وإخلاص.

 

لقد عشت معه سنين عديدة في ساحة واحدة عرفته عن قرب وعرفت سعيه وكدحه وإخلاصه في العمل وجديته وحزمه وقوته في ذات الله سبحانه وتعالى.

 

كان يحمل هم العمل كما يحمل الناس هموم أولادهم وعوائلهم، ويتفقد ساحة العمل كما يتفقد الناس بيوتهم وشؤونهم وعوائلهم، وكان يتحسس مسؤولية العمل في سبيل الله تعالى، وبمقدار ما يحمل من مسؤولية العمل يخلص لله عز وجل وبقدر ما يخلص لله عز وجل يتحمل مسؤولية العمل وهمومه.

 

وقد رزقه الله تعالى بصيرةً ووعياً وخبرةً في العمل، يعرف أين موضع الشدة والحزم ويعرف أين يتسامح، وأين يتشدد، ويعرف كيف يواجه موجة الإنحراف والفساد وكيف يصد هذه الموجة.

 

وكنا نعيش تلك الأيام قبل ربع قرن أو ثلاثة عقود من السنين فترة المخاض من حياتنا الإسلامية المعاصرة، نرى فيها عودة الإسلام إلى حياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية والإعلامية.. بعد انحسار طويل للإسلام عن مجاري الحياة، أعقبها هزيمة نفسية في مقابل الغزو الثقافي والغارة الحضارية التي أقبلت علينا من ناحية الغرب والشرق.

 

وكانت تلك الأيام غربة الإسلام ومحنة الإسلام وانحسار الإسلام عن ساحة الحياة وانزوائه في المساجد.

 

فلما أذن الله تعالى بأن تنجلي المحنة.. بدأ الإسلام يزحف على الجامعة والصحافة والمراكز الثقافية، وبدأ الشباب يقبلون على الإسلام أفواجاً.. أفواجاً يذكرنا بقوله تعالى: (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً) .

 

فبدأت المساجد تمتلئ بهم وأخذت حاجتهم تتزايد إلى الكتاب الإسلامي والنشرة والمجلة، والمحاضرة، والخطابة الإسلامية، والمسرح الإسلامي، والأفلام والأناشيد والشعر والتمثيل.

 

فكان لا بد من عمل واسع وسريع لإستيعاب هذه الحالة والحاجة الجديدتين، حتى لا تموت في فترة مخاضها، ولا تنحرف عن مسيرها الصحيح، ولا يصيبها اليأس.

 

وكان على الجيل الواعي الذي عاش تلك الظروف، وتحسس مسؤولية العمل للإسلام أن يبذل كل ما في وسعه من حول وقوة، مما أتاهم الله تعالى في العمل فقد كانت الفترة فترة عمل وكدح في حياتنا المعاصرة، بعد محنة طويلة، وليل طويل وغربة طويلة للإسلام، عشنا طرفاً منها وعاش آباؤنا منها الطرف الآخر.

 

لقد كانت الأيام أيام عمل، وكان الفتور في العمل والتواني فيه يساوي تفويت هذه الفرصة التي لن تعود مرة أخرى إلا بعد جهد جهيد وشاق، وكانت خسارة التفريط في هذه الفرصة خسارة كبيرة.

 

فأقبل الجيل الذي عاصر هذه الفترة على العمل بإخلاص كبير، وتجربة وخبرة قليلتين، يسد نقص التجربة والخبرة إخلاص العاملين لله عز وجل وسعة صدورهم، وإخلاص الشباب الذين أقبلوا على الإسلام بشوق وحب كبيرين.

 

ولم تكن هذه الحالة تخص قطراً معيناً من ديار الإسلام الواسعة.. فقد كانت هذه بعينها موجودة في العراق وفي مصر وفي إيران وفي الكويت وفي لبنان وسويا والأردن وفلسطين والسودان والجزائر وباكستان وبلاد شتى واسعة من العالم الإسلامي.

 

وكانت الكويت من هذه البلاد التي عاشت في تلك الأيام ظروف انحسار محنة الإسلام وغربته وعودة الإسلام إلى المعاهد العلمية والكليات والثانويات والصحافة ومجامع الشباب والفتيات وكان صديقنا وأخونا أبو مصعب عليه الرحمة يعيش هذه الأيام وكان يتحسس فيها مسؤولية العمل ويحمل همومه ويعيشها بكل مشاعره، وبقلبه الكبير الذي أوجعته محنة الإسلام وغربته من قبل.. فألقى نفسه في ساحة العمل مرة واحدة، واحتضن الجيل الصاعد الذي انفتح على الإسلام، وتلقاهم في المسجد والمدرسة والجامعة بصدره الواسع وقلبه الكبير وبدأ يربيهم مع زملائه وأخوته في العمل، ويحيطهم برعايته واهتمامه كما يحيط الفلاح مزرعته باهتمامه يسقيها ويشذبها مما ينبت فيها من الطفيليات، ويدفع عنها الأمراض النباتية.

 

 وما كان يحدث في الكويت من مخاض ثقافي وحضاري كان يحدث في كل مكان من العالم الإسلامي.

 

لقد كانت الرحمة الإلهية يومئذ هابطة فتعرض لها قوم ممن أتاهم الله عز وجل توفيق العمل، وكان من أولئك القوم الذين تعرضوا لرحمة الله تعالى الهابطة أبو مصعب – رحمه الله تعالى – لقد عرفنا يومئذ معنى الحديث النبوي الشريف: (إن لله في دهركم هذا نفحات ألا فتعرضوا لها) .

 

وعادت تلك الأيام على الإسلام والمسلمين ببركات كثيرة وأينعت تلك الحقول ونمت تلك النواة فأصبحت شجرة باسقة، نسأل الله تعالى أن يعيذها من الفتن التي تعصف على ساحتنا بين حين وآخر.

 

ويعجبني وأنا أتحدث عن أخينا وصديقنا أبي مصعب رحمه الله تعالى الذي أفجعنا فقده، أن أتحدث في سياق الحديث عنه وتاريخه وعمله عن نقطتين تتعلق إحداهما بالعمل والعاملين والأخرى بساحة العمل، أما التي تتعلق بالعمل والعاملين، فهي إن العمل لا ينتج ولا يثمر ولا ينفع صاحبه ولا المجتمع إلا إذا كان خالصا لله سبحانه وتعالى، والعمل الذي لا يخلص فيه صاحبه لله سبحانه وتعالى، لا ينفعه ولا ينفع الآخرين، والإخلاص لله سبحانه وتعالى هو أساس العمل. ولقد كان بعض الصالحين يدعى إلى شأن من شؤون الدنيا أو الدين فيمتنع ويعتذر ويقول: لا تحضرني النية الآن وقد ينمو العمل - من دون الإخلاص - أحيانا ويتعاظم، ولكنه منخور من الداخل يتهاوى وتتساقط أوراقه وأغصانه في أول زوبعة من زوابع الفتن كما تتساقط الأشجار في الخريف.

 

وقد يتصور الإنسان أن أمر الإخلاص في العمل من أيسر الأمور، وهو من أشق ما في العمل وليس في العمل أشق من الإخلاص ولا أعظم من الإخلاص. والتهاون في الإخلاص والتقوى هو أساس كل مصيبة في العمل في حياة العاملين.

 

وما أضر بالعاملين شيء في دنياهم وآخرتهم كما أضر بهم التهاون في الإخلاص والتقوى في العمل.

 

 

وثانياً:

لا بد للعمل من بصيرة ومعرفة وعلم، ولا يغني العمل عن الوعي والبصيرة، كما لا يغني الوعي والبصيرة عن العمل، فالعمل من دون بصيرة ووعي يعرض الإنسان في كل لحظة لشراك الشيطان، وعمل قليل مع بصيرة ويقين خير من عمل كثير من دون بصيرة ويقين.

 

وسلام الله على إمام العارفين وأهل اليقين فقد مر في بعض الليالي على بعض مواقع جيشه في صفين فوجد بعض الخـوارج الذين عطلوا القتال بجهلهم يتهجد في آناء الليل فقال عليه السلام: (نوم في يقين خير من عبادة في شك) .

 

فلا بد من المعرفة واليقين والبصيرة مع العمل، كما لا بد للبصيرة والمعرفة والوعي من العمل، ولن تكون البصيرة والمعرفة والوعي عقيمة، إن البصيرة والمعرفة شجرة مثمرة دائماً وثمرتها العمل الصالح.

 

 

وثالثاً:

العمل علم قائم بنفسه ولا يتصورن أحد أن العمل من دون علم ينفع كثيراً.

 

وأقصد بالعلم هنا شيئاً غير المعرفة والبصيرة.

 

ومن أحسن علم العمل يصل إلى الغاية أسرع وأفضل وبخسائر أقل وجهد أقل.

 

فلا بد للعاملين من أن يتعلموا علم العمل.

 

وإذا تعلم الإنسان علم العمل يعرف ماذا يقول ومتى يجاهر بالقول، ومتى يخافت بالقول، وكيف يخاطب الشباب، وكيف يكسبهم إلى دين الله عز وجل، وكيف يردعهم عن فتن الشيطان وإغراءاته.

 

وبأية لغة يتحدث مع الناس، ومن خلال أية مناهج، وكيف يستغل الفرص وكيف يواجه الفتن ومتى يتصدى للموجة ومتى يتلافى الصدمة وكيف يمتص الصدمة وكيف يواجه التحديات الثقافية والسياسية وكيف يتحدى الواقع الحضاري والثقافي.

 

وذلك يحتاج إلى علم وتخصص ودراسة وتخطيط شأنه في ذلك شأن أي شأن آخر من شؤون الحياة.

 

ومن مصادر العلم الخبرة والتجربة فإن خبرة العاملين معين عن العلم والمعرفة وهذه التجربة التي يكتسبها العاملون في ربع قرن من العمل أو أقل أو أكثر كنز لا قيمة له ولا يجوز التفريط فيه ومن الخسارة الفادحة أن تذهب هذه الكنوز بوفاة العاملين ويبدأ بعدهم الجيل الجديد من نقطة قريبة من الصفر .

 

ورابعاً:

لا بد في العمل من التوكل على الله والثقة بالله والاعتماد على الله فلا يغني التخطيط والتفكير عن التوكل كما لا يغني التوكل عن التخطيط والتفكر. ولكل منهما حقله الخاص في منهج ثقافة العمل في الإسلام، فإذا بدأ الإنسان العمل بحوله وقوته أوكله الله إلى حوله وقوته وإذا أوكل الله عبده إلى حوله وقوته كان أضعف من أن يحرك ساكنا أو يفي أمرا في حياة الناس وفي المجتمع،  وأما إذا تحرك الإنسان بحول الله وقوته، ومتوكلا على الله ومن منطلق الثقة وقلبه عامر بذكر الله ويداه ممتدتان إلى الله في كل مراحل العمل، فإن الله تعالى يتولى عنه كل شؤون العمل ويتيسر له العسر ويقرب له البعيد، ويحضى له من أمره مرفقا، ويربط على قلبه ويمنحه العزم والقوة.

 

يقول تعالى في منح فتية أهل الكهف عندما هبوا فقالوا ربنا رب السموات والأرض لن ندعوا من دونه إلهاً.. يقول تعالى: (وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ولما اعتزلوا قومهم آواهم الله تعالى إلى الكهف ونشر لهم ربهم من رحمته وهيأ لهم من أمرهم مرفقا.. يقول تعالى: (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا) ويقول تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) .

 

إن العاملين إذا أيقنوا أن حولهم وقوتهم لا تقوى على مواجهة كل هذه التحديات الكبيرة والعقبات التي تعيق طريقهم توكلوا على الله ووضعوا ثقتهم  بالله وعلموا أن الله تعالى يشد حولهم بحوله وقوتهم بقوتهم بقوته وإذا علم الإنسان أن حوله من حول الله وقوته من قوة الله فلا يتراجع أمام شيئ ولن يشق عليه ولن يتعاظمه أمر وعلم أن الله تعالى حسبه في كل هول وشدة وكل أزمة وبأس.

 

وليس التوكل على الله والثقة بتأييد الله ونصره واسناده يحصل للعاملين في سبيل الله بمجرد الرغبة والنية، فما أكثر ما نعرف من العاملين الذين تحملوا مسؤولية العمل في سبيل الله تعالى لفترة من الزمان ودخلوا ساحة العمل بقوة ونشاط كبيرين ثم غلبهم اليأس وانقطع ما بينهم وبين الله تعالى من أسباب التوكل والثقة والسبب في ذلك يعود إلى ضعف العلاقة مع الله تعالى مما يخفي غالباً على الإنسان ولا يظهر هذا الضعف لصاحبه إلا في ساعات العسر والشدة حيث ينقطع ما بين الله تعالى وبين الإنسان من أواصر الثقة والتوكل فيسقط الإنسان مرة واحدة وينتهي وقد حدث الكثير من نظائر ذلك في تاريخنا البعيد والمعاصر.

 

وعلاج ذلك الذكر والصلاة والانقطاع إلى الله تعالى والتهجد في آناء الليل والاستغراق في ذكر الله تعالى ولا يحتاج أحد من عباد الله تعالى إلى الاستغراق في ذكر الله تعالى والانقطاع إلى الله تعالى في الذكر والمناجاة والدعاء كما يحتاج العاملون ودليل ذلك واضح فلا يتعرض أحد من الناس للصعاب على طريق ذات الشوكة كما يتعرض العاملون عن الناس وليس يثبت أقدام الناس على أرض المواجهة وساحة العمل شيء كما يثبته ذكر الله تعالى.

 

و كان يلجأ الأنبياء والصالحون من عباد الله إلى الله تعالى في ساحة المعركة والمواجهة كلما ضاقت بهم السبل وضاقت بهم الأرض بما وسعت، ويسألون الله تعالى أن يثبت أقدامهم وينصرهم ويفتح ما بينهم وبين أقوامهم ويشد قلوبهم ويفرغ عليهم صبرا (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ) ومن أجل ذلك يأمر الله تعالى نبيه في أوائل ما انزل عليه من الوحي أن يقوم الليل إلا قليلا يقول تعالى لرسوله: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا) .

 

وخامساً:

لا بد للعاملين من الصبر في البأساء والضراء فإن طريق العاملين في سبيل الله تعالى حافل بالمتاعب والضر والبأس والشدة فإذا تسلح الإنسان بالصبر على طريق ذات الشوكة أمده الله من عنده بالنصر والتوفيق، يقول تعالى: (فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) ويقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم في وسط المعركة المصيرية الحامية بين التوحيد والشرك: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) .

إن الصبر من سنن الأنبياء ويأمر الله تعالى نبيه بالصبر كما أمر أولي العزم من قبله، وكما صبر أولو العزم من الأنبياء من قبله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا صبروا في بأساء العمل وضرائـه جعلهم الله تعالى أئمة للناس يهـدون الناس يقول تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا) وإذا استقاموا أنزل الله تعالى عليهم الملائكة يبشرهم ألا يخافوا ولا يحزنوا { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا) وبأزاء تهديد فرعون وسخطه وغضبه ووعيده كان سحره فرعون الذين آمنوا بالله تعالى يقولون: (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ) .

 

إن طريق العاملين في سبيل الله تعالى شاق عسير وطويل وصعب ولا يستطيع الإنسان أن يواصل السير على هذا الطريق الصعب دون أن يتمسك بالصبر ويتسلح به، سلام الله على الصديق يوسف قال لأخوته بعد المحنة الطويلة لما أظهره الله تعالى عليهم، واكتشفوا أمره وسألوه: {قَالُوا أَئِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) .

 

وسادساً:

لا بد للعاملين أن يكتسبوا أخلاقية العمل فإن للعمل أخلاق متميزة يحتاجها العاملون بشكل خاص، فلا يستطيع الإنسان العامل أن يقطع هذا الشوط الطويل من العمل من دون حلم وسعة صدر وقدره على ضبط النفس والسماح والمرونة ولين الجانب وضبط الإنفعالات النفسية وطول النفس.

 

ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إمام العاملين في الأخلاق وسعة الصدر والتحمل حتى قال عنه الله العظيم (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ ) وأفسد شيء بالعمل وأضر شيء به ضيق الصدر والنزق وإفشاء السر، وحياة رسول الله صلى الله عليه وآله وأخلاقه قدوة للعاملين وأسوة ولقد وددت أن يقرأ الذين نذروا أنفسهم للعمل في سبيل الله تعالى دورة كاملة من سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسننه وأخلاقه سيما ما يتعلق منها بمعايشة الناس وتوجيههم ودعوتهم إلى الله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقول تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) وكنت أود أن تكون السيرة النبوية الشريفة والسنن النبوية جزء من المناهج الدراسية لحوزتنا التي تربي للمجتمع العلماء العاملين الذين يحملون هم هذا الدين ونشره وتثقيف الناس به.

وكم نعرف من العلماء المثقفين الإسلاميين الذين آتاهم الله تعالى علماً غزيراً وديناً وتقوى لكن حدة في أخلاقهم وضيقاً في صدورهم عزلهم عن التأثير في المجتمع، والإنسان العامل إنما ينفع ويعمل في وسط الناس فإذا خرج من وسط الناس يفقد كل مقومات وجوده كالسمكة التي تخرج من الماء.

 

ولا بد للعاملين أن يعيشوا مع الناس ولا يتميزوا عن الناس ويكونوا معهم في السراء والضراء يتفقدون شؤونهم وأحوالهم يتحملون همومهم ويتفاعلون معهم ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله مع الناس في السراء والضراء يتحمل هموم الناس ومشاكلهم ويوسع لهم صدره ويتفقدهم واحداً واحداً وكان كل واحد منهم يتصور أن ليس هناك أقرب منه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وكان يجالسهم ويواكلهم ويضحك معهم إذا ضحكوا ويتعجب إذا تعجبوا ويمازحهم، عندما طلب معاوية من ضرار رحمه الله تعالى أن يصف له عليا عليه السلام كان من جملة وصفه له عليه السلام (كان فينا كأحدنا) .

 

وسابعاً:

لابد للعاملين في سبيل الله تعالى من ثقافة واسعة وعلم واسع بالإسلام وأحكامه وعقائده وأخلاقه والتاريخ والسيرة ولا بد لهم من معرفة واسعة بالقرآن والحديث ولا بد لهم من معرفة واسعة بثقافة عصرهم ولغة عصرهم ولا بد لهم من تتبع ومعرفة وفهم للأحداث السياسية التي تمر بالعالم عامة والعالم الإسلامي خاصة ودراية بالشبهات التي يغرسها أعداء الإسلام في أذهان الشباب، وهذه الثقافة التي شرحناها الآن شيء آخر غير البصيرة والمعرفة التي ذكرناها أولاً فتلك معرفة وبصيرة ويقين لله تعالى وصفاته وأسمائه الحسنى وجلاله وهذه ثقافة وهما من مقولتين. والعاملون في سبيل الله تعالى لا بد لهم من هذه الثقافة ولا بد لهم من إشباع أفكار الشباب بما ينفعهم ويصلحهم من المعرفة والثقافة الإسلامية ولا بد لهم من تفنيد وإبطال الشبهات التي يغرسها خصوم الإسلام في أذهان الشباب، ولابد لهم من تقديم صورة نقية صافية عن الإسلام كما أنزله الله تعالى على رسوله ولا بد أن تكون هذه الثقافة قوية ومتينة وعميقة فإذا كانت ثقافة العاملين ضحلة وضعيفة فلا يستطيعون أن يؤدوا هذا الدور المهم في بناء ذهنية الشباب فيفقد عندئذ شبابنا الحصانة الفكرية الكافية ويتعرضون للغزو الثقافي والحضاري الذي نتعرض له من هنا وهناك.

 

وثامناً:

لابد للعاملين من أن يكونوا أدل الناس عملاً بما يقولون فإذا وعظوا الناس بالتقوى كانوا أسبقهم إلى التقوى وإذا نصحوا الناس بالمحافظة على الصلوات في أول مواعيدها كانوا أسبق الناس إلى المحافظة على الصلوات وإذا رغبوا الناس وشوقوهم إلى نافلة الليل كانوا أحرص من غيرهم على أداء هذه النافلة وإذا أمروا الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كانوا أسرع منهم إلى أداء هذه الفريضة الإسلامية وإذا نصحوهم بالزهد في الدنيا والإعراض عنها كانوا أكثر الناس زهداً في الدنيا وإعراضا عنها.

 

ولقد اختبرنا حياة العاملين في سبيل الله تعالى كثيراً فوجدنا أكثرهم تأثيرا في الناس أعملهم بما يقولون وأسرعهم إلى تنفيذ ما يأمرون وينصحون.. يقول تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) إن الجمهور يمتلك بصيرة قوية نافذة يعرف بها من يستحق الاتباع عمن لا يستحقه وممن يصغي إليه ممن لا يصغي إليه ومن أهم مقاييس الجمهور أن يكون العاملون في سبيل الله تعالى من علماء ومثقفين إسلاميين بمستوى ما يدعون إليه الناس في عملهم ومعيشتهم وعوائلهم وحياتهم الشخصية وإذا وجدوا فاصلاً واضحاً بين ما يقولون وما يعملون سقطوا عن أعين الناس فلم يعد لهـم تأثير في نفوس الناس.

 

وتاسعاً:

أن يبذلوا من راحتهم وأنفسهم ما وسعهم البذل ولايطلبوا في هذا الطريق راحة وعافية، فلن يستطيع أن يتقدم في هذا الطريق من يطلب الراحة والعافية ولن يتمكن أحد أن يواصل العمل في سبيل الله تعالى إلا إذا بذل لله تعالى كل ما له من راحة واستقراء وعافية، إن التعامل مع الله بيع وشراء وتجارة مع الله.. يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) ويقول تعالى: (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ) وفي هذه التجارة يبيع الإنسان كل ما أتاه الله تعالى لله ويقبض الثمن ويذهب لشأنه دون أن يعاود النظر إليه فقد باع نفسه لله وقبض الثمن فأصبحت نفسه لله وله الجنة ولذلك فإن عليه أن يضع كل ما أتاه الله تعالى من رزق في خدمة هذا الين ولا يطلب لنفسه راحة وعافية ودنيا ، ويبذل عمره وحياته وما رزقه الله من المواهب في غير سرف ولا إفراط في خدمة دين الله وعباد الله.

 

وعاشراً:

ينظم حياته وعمله فإن مساحة العمل واسعة ومجالاته كثيرة وما لم ينظم الإنسان عمله ووقته وما لم يشخص الأولويات ويقدمها على غيرها ويعطي لكل مساحة من العمل ما تستحقه من جهده ووقته المحدودين لا يستطيع أن يفي بالأعمال الكبيرة ولا أن يعمل في المساحات الواسعة.

وقد كان أمير المؤمنين عليه السلام يوصي أبناءه بنظم أمورهم، والذي يدخل ساحة الحياة بعقلية منظمة يمكنه الله تعالى من أن يحقق ما يريده والذي يدخل الحياة بعقلية غير منظمة لا يستطيع أن يحقق شيئاً مما يريد.

 

وكلما تتشعب ساحة الحركة وسبل العمل تشتد الضرورة إلى النظم ونحن نعيش اليوم في عصر لا يمكن أن يقوم الإنسان فيه بمسؤولياته إلا بتنظيم وقته وجهده وتشخيص الأولويات في عمله وتقديمها على غيرها، وأضيف إلى ذلك ضرورة الإستفادة من الإمكانات العلمية الحديثة في العمل والدعوة إلى الله ورسوله من المناهج الحديثة أو الأجهزة المتطورة الحديثة في التربية والتثقيف والإعلام ونحن اليوم في ساحات صراع واسعة وشاملة حضارية وثقافية وسياسية وهي ساحة صراع وصدام ومواجهة ولسنا نستطيع أن نقاوم في هذه الساحة مالم نتجهز بكل الإمكانات الحديثة في العمل السياسي والثقافي لتعبئة القوى لصالح الإسلام في هذه المعركة المصيرية.

 

والحادي عشر:

الوقوف إلى جنب الناس في ظلاماتهم ومحنتهم والدفاع عنهم والوقوف معهم في الصف المتقدم وتحمل هموم الناس، فإن الجمهور من الناس يتعاملون ويأخذون ممن يشاركهم همومهم ويتحسس آلامهم ويدافع عنهم وهذه الخصلة هي خصلة العلماء العاملين، يقول أمير المؤمنين عليه السلام في الخطبة الشقشقية في سبب قبوله للخلافة عندما أقبل عليه الناس يريدون مبايعته بعد أن غيبوا عنه هذا الموقع الذي هو أخص الناس به بنص من رسول الله صلى الله عليه وآله يقول في سبب استجابته لطلب الناس أنه أراد بذلك القيام بما عهد الله تعالى به على العلماء (ألا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم) إذاً فإن العلماء ومن ينهض برسالتهم من العاملين مسؤولون عن كظة كل ظالم وسغب كل مظلوم في بلاد المسلمين ما دام هناك ظالم يظلم ومظلوم يصرخ ويطلب من المسلمين النجدة.

 

والثاني عشر:

 التقوى وكان ينبغي أن يكون الأول في صفات العاملين في هذا العرض لولا أنني أسترسلت في كتابة هذه الصفحات باسترسال غير تحضير واعداد سابق فكان الأخير ليكون الأخير ختامه المسك فإن التقوى هي الأساس في شخصية الإنسان المؤمن وهي المقياس في التفضيل.. يقول تعالى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) والتقوى تجعل صاحبه في موضع تأييد الله تعالى ونصره (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) والتقوى من أعظم بركات الله ورحمته وبه يجعل الله للمؤمنين مخرجا من كل ضيق وفرج من كل شدة وكرب، ورزقاً وافراً من رحمته (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) وبالتقوى يكتسب الإنسان الصمود والمقاومة والقوة والصبر ولأمر ما يقرن القرآن التقوى بالصبر (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ) والتقوى عصمة ومناعة في حياة الإنسان المؤمن يعصمه من الزل والخطأ ومن مزالق الأهواء والفتن ويقوم سلوكه ومنطقة ويحفظه من الشيطان هذا ما يتعلق بصفات العاملين ومقومات شخصيتهم.

 

والحديث الآخر.. الذي أحب أن أعقب به الحديث الأول هو الحديث عن الساحة واقصد بالساحة ساحة العمل .

 

ولله تعالى سنن جارية ونافذة في الساحة ولا بد لنا نحن العلماء والعاملين في سبيل الله تعالى من فهم ساحة العمل وعناصرها ومكوناتها وفهم سنن الله تعالى في ساحة العمل، وما لم نحسن فهم الساحة لا نستطيع أن نقوم بدور ينفع في هذه الساحات.

 

إن الساحة تتعرض لرياح الرحمة والفتنة كما تتعرض الأرض للربيع وتزدهر وتورق الأشجار وللخريف فتجدب الأرض وتفقد بهجتها وتصفر أوراق الأشجار وتتساقط فتكون الأرض موحشة، وكذلك سنن الله تعالى في التاريخ والمجتمع، فإذا هبت رياح الرحمة اخضرت الساحة ونزلت الرحمة من عند الله تعالى على الساحة وأقبلت القلوب على الله وبعث الله الأنبياء مبشرين برحمة الله وطاوعتهم النفوس والقلوب، وتفتحت بصائـر القلوب وإذا هبت (رياح الفتنة) على المجتمع انقلبت القلوب والبصائر وفقد الناس ما آتاهم الله تعالى من وعي ومعرفة ورأوا الأشياء والأمور بخلاف ما هي قال أمير المؤمنين علي عليه السلام يوما ما (إني فقأت عين الفتنة، ولم يكن يجترئ عليها أحد غيري) فقام إليه رجل فقال: حدثنا عن الفتنة  فقال عليه السلام: (إن الفتنة شبهت وإذا أدبرت نبهت) .

 

كذلك الفتنة تسلب الإنسان البصيرة والرؤية  وأكثر من ذلك تقلب الرؤية عند الإنسان فيرى الإنسان الحق باطلاً ويرى الباطل حقاً، وذلك قوله عليه السلام (إذا اقبلت شبهت) وإذا أدبرت الفتنة تنبه الناس إلى فداحة أخطائهم في ظروف الفتنة وتعجبوا من مواقعهم ورؤاهم في ظروف الفتنة كما نتعجب نحن اليوم عندما نقرأ في التاريخ أن الناس تركوا أمير المؤمنين والحسن عليهما السلام واتبعوا معاوية، وأن الناس تركوا الحسين عليه السلام وأقبلوا على الفاسق يزيد بن معاوية، ونعجب كيف عطل الخوارج القتال يوم صفين بمجرد أن رفع جيش الشام المصاحف على الرماح وقد أوشك أمير المؤمنين عليه السلام أن يهزم جيش معاوية.

 

 ويستتبع الإنقلاب في البصائر الإنقلاب في المواقف فينقلب الإنسان بصورة مفاجئة من الحق إلى الباطل ومن الهدى إلى الضلال، روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله (ليغشين من بعدي فتن كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً إلا من أحياه الله تعالى بالعلم) وهذه الفتن تتردد على ساحاتنا ومجتمعاتنا بين حين وآخر كما تتردد فصول الشتاء والخريف على الأرض فتجدب الأرض عندها، بعد أن تخضر وتورق الأشجار وتثمر في الربيع والصيف ولكن دورة الفصول في السنة تأتي بصورة قهرية بموجب عوامل كونية أعدها الله تعالى مثل انحراف الأرض عن مدارها حول الشمس، أما سنن الله تعالى في التاريخ والمجتمـع فتأتي نتيجـة أعمال الناس وسلوكهم وأخلاقهم.

 

يقول أمير المؤمنين عليه السلام (إن الفتن تحوم كالرياح تصبن بلداً وتخطئن أخرى) وهذه الإصابة في بلد والعدول عن بلد لا تأتي عفواً واعتباطاً وليس في سنن الله تعالى عفو واعتباط، وإنما تأتي نتيجة عوامل إجتماعية وسلوكية قائمة في حياتنا لا مجال لسردها وذكرها في هذا المقال .

 

فإذا تحولت رياح الرحمة في ساحة من ساحات عملنا إلى رياح الفتنة أعاذنا الله تعالى عنها عندئذ تتحول البصائر كما تتحول المواقف بالتبع، فيرى الناس الحق باطلاً والباطل حقاً، ويستحلون الحلال ويستحرمون الحرام، وسبب ذلك انقلاب الرؤية فيستحلون غيبة المؤمن، وهو حرام، ويستحلون انتهاك حرماته وهو محرم، ويستحلون القطيعة فيما بينهم وقد حرمه الله تعالى أشد التحريم، ويستبيحون لأنفسهم سوء الظن بعضهم ببعض، وقد حظره الله تعالى على عباده في محكم كتابه فتتمزق الجماعة الواحدة إلى جماعات وتتفكك العلاقة داخل الأسرة الواحدة وتتساقط الحرمات التي جعلها الله تعالى في حياة الناس ومن أعظم هذه الحرمات حرمة المؤمن التي جعلها الله تعالى أعظم من حرمة الكعبة المشرفة، وينتهك البعض سر البعض، وقد جعل الله تعالى سر المؤمن من المحرمات وأكد فيه على الستر، ويستحلون العداوة والبغضاء فيما بينهم والله تعالى يمقتها أشد المقت.

 

كل ذلك يحصل في الفتنة ويحصل في الفتنة ما هو أعظم من ذلك وأسوء حتى إذا أخذت الفتنة منهم ومن ساحتهم مأخذها وأذن الله تعالى لها بالانجلاء تنبهوا وتعجبوا مما كانوا فيه كيف دخلوا في هذه الفتنة وكيف انقلبت رؤاهم وبصائرهم وكيف تحولت فيها مواقفهم؟ وكيف انقلبت العلاقة الحميمة والألفة والمحبة إلى عداوة وبغضاء وقطيعة ؟ وكيف انقلبت الثقة فيما بينهم إلى سوء الظن والقيم والحرمات إلى أضداها ؟ ...وإذا تحدثنا عن الفتن تهب رياحها على ساحاتنا بين حين وآخر فلا بد أن نتحدث عن المعاذ من الفتن فقد جعل الله تعالى لنا في كل فتنة (معاذاً) نعوذ به ونلجأ إليه ليحمينا من الفتنة.

 

المعاذ الأول: هو الله سبحانه وتعالى، فإن الله يعيذ عباده من الفتنة إذا لجأوا إليه، وإذا عرف الله تعالى من نياتهم وقلوبهم الصدق. وقد ورد في الدعاء (اللهم أني أعوذ بك من مضلات الفتن) ومن استعاذ بالله صادقاَ أعاذه الله ومن اعتصم بالله حقا عصمه الله.. يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا) وهذا النور الذي يرزق الله تعالى من يحب من عباده نور للسلوك وللحركة يميز به صاحبه الحق عن الباطل، والهُدى عن الضلال، والصادق عن الكاذب، والإنحراف عن الاستقامة والحلال عن الحرام وليس نوراً للنظر، يقول تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) .

 

المعاذ الثاني: التقوى.. وإن التقوى حصن في حياة المتقين يحصنهم من الفتن واغراءات الشيطان ووساوسه فإذا كان العبد يتقي الله تعالى حق تقاته، وجد في نفسه نوراً يميز به الحق عن الباطل والهُدى عن الضلال والحلال عن الحرام، فإن التقوى نور في حياة المتقين كما هو حصن.. يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) والآية الكريمة ظاهرة واضحة إن هذا النور الذي يرزق الله تعالى عباده في الفتن بالتقوى نور للحركة والمشي في المجتمع وليس نورا للنظر (نُورًا تَمْشُونَ بِهِ) ويقول تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا) وهو من أعظم ما يمن الله تعالى على عباده في الفتن أن يجعل لهم فيها فرقاناً بفرقون به بين الحق والباطل، وهذا الفرقان يؤتيه الله بالتقوى فإذا أتى الله تعالى عبدا من عباده الفرقان لم تضره الفتنة أبداً مهما كانت الفتنة ضارية وشديدة ولم يضل صاحبه الحق مهما تقلبت القلوب والبصائر.

 

يقول أمير المؤمنين وإمام المتقين عليه السلام (اَلْيَوْمَ أُنْطِقُ لَكُمُ اَلْعَجْمَاءَ ذَاتَ اَلْبَيَانِ عَزَبَ [ غَرَبَ ] رَأْيُ اِمْرِئٍ تَخَلَّفَ عَنِّي مَا شَكَكْتُ فِي اَلْحَقِّ مُذْ أُرِيتُهُ) كذلك يكون الفرقان والبصيرة في حياة الإنسان وإنما يرزقهما الله تعالى عباده بالتقوى.. يقول تعالى: (واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله) .

 

نسأل الله تعالى أن يرزقنا التقوى والعافية ويأخذ بايدينا في مضلات الفتن ولا يكلنا إلى أنفسنا وأهواءنا طرفة عين والحمد لله رب العالمين .



التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقعالتعليقات «1»

10/11/2015م - 10:56 صفؤاد عاشور - الكويت
حديث آية الله الآصفي المبعوث من قلعة العلم وجامعة النجف من خلال المرجع الحكيم الكبير في النجف الأشرف لتكملة ما قطعه أستاذنا الجليل سماحة الشيخ علي الكوراني متع المسلمين بطول بقائه..
لقد كانت فترة قيادة سماحة آية الله الآصفي فترة تحديات كبرى لحكم صدام التسلطي الممتد كالأخطبوط على كل الخليج بما فيها دولة الكويت، فكان يغتال ويختطف ويهدد ويلاحق الإسلاميين الواعين وكان آية الله الآصفي على رأس المطلوبين..
في مثل هذه الأجواء كان يعمل ويجاهد ويربي ويدرس ويتحرك ويشارك ويحاضر..
وكان من ألصق الأشخاص إليه هو المرحوم محمد خضير حبيب أبو مصعب طاب ثراه ومثواه..
لقد تحدث أستاذنا ومربينا آية الله الآصفي عن العمل والعاملين وكان المرحوم أبو مصعب بارزاً في الساحتين واعيا محللاً متابعاً ينبعث منه نور من إيمانه وتقواه يريك به من خلال تحليله وقائع الأمور ويجعلك في الصورة.. فكان بصمة بين إخواننا المجاهدين..



اسمك:
بريدك الإلكتروني:
البلد:
التعليق:

عدد الأحرف المتبقية: