سيد جابر بهبهاني - 06/04/2013م - 11:26 م | عدد القراء: 3348
تأسست حملة التوحيد الكويتية للحج والعمرة عام 1979م، وهي حملة خيرية لم يرد المؤسسون لها والقائمون عليها وعلى رأسهم العم الحاج كاظم عبد الحسين محمد "حفظه الله تعالى" من عملهم هذا إلا الثواب والإحسان من المحسن القدير، وحرصاً منها على بث الوعي والفكر الإسلامي الأصيل وفق مذهب أهل البيت عليهم السلام -وقد كان هذا من الأهداف الأساسية للحملة -فقد تم دعوة الفقيد الغالي سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله "رضوان الله تعالى عليه" ليرافق الحملة كعالم ومرشد ديني لها لأنه خير من يقوم بهذه المهمة، وبناء على هذا الأساس رافق سماحته الحملة منذ تأسيسها عام 1979م وحتى عام 1987م. وخلال هذه الأعوام السبع نجح الفقيد الغالي في تأسيس علاقة أبوية معنا نحن أعضاء لجان الحملة (رجالاً ونساءً) ، وقد كنا نشتاق إليه اشتياق الابن لأبيه وذلك لطول الفراق، فلقياه في وقتها يكاد يكون مقتصراً من حجة لأخرى حيث كانت الظروف الأمنية في وقتها لا تسمح للتردد على بيروت لزيارته، وأتذكر كنا ننتظر وصوله في مطار المدينة المنورة ونحن على أحر من الجمر وفي غاية الفرح والسعادة، وعند خروجه من صالة القادمون نتزاحم عليه ونلتف من حوله للسلام وتقبيل جبينه المشع نوراً، تماما كما يتزاحم الأبناء على أبيهم للسلام عليه من بعد سفر بعيد. وأما عند وصولنا لمقر سكن الحملة كان يجلس ونحن محلقين به نتحادث معه وهو يبادلنا الحديث ممزوجاً بمشاعر الحب والود، وكان كل واحد منا يتمنى أن يطلب الفقيد الغالي منه شيئاً ليسرع في تلبيته، وهكذا تكون الحال معه طوال موسم الحج، فقد كان هو مصدر الطاقة المعنوية التي تدفعنا للعمل، وكان الفقيد الغالي يعي ذلك ويشعر به ولهذا كان يحرص على التواجد معنا في الحملة. لقد كان لتواضعه المميز والذي قل نظيره عند غيره من أهل الفضيلة والعلم الأثر الكبير في انفتاحنا عليه، فلم نشعر في يوم من الأيام بالحرج معه من طرح الأسئلة مهما كانت بسيطة والتي يعتقد البعض بأنها يجب أن لا تطرح على مرجع أو عالم بمستواه ، وكان رحمه الله تعالى دوماً يقول "دعوا من لديه سؤال أن يسأل مهما كان بسيطاً وعادياً". ومن المواقع التي كنا نشعر فيها بتواضع السيد فضل الله "رحمه الله تعالى" والمشهود لها عند كادر الحملة هو عند اعداد البرنامج العام للحملة الذي كنا نعرضه عليه بعد الانتهاء من اعداده، وذلك ليبدي رأيه إذا كان يتوافق برنامج لقاءاته المزحوم وكما سيذكر لاحقا مع العلماء والعاملين بالساحة الإسلامية، يأتي الرد منه بكل تواضع وجدية "عاملوني كأحدكم، ضعوا البرنامج كما تريدون وسوف ألتزم به"، وفعلا كان يلتزم بتنفيذ برنامج الحملة رغم ضغوط استقبال الضيوف والأحبة ومن لديه سؤالا شرعيا كان أو فكرياً، فلم يكن يصد عن أحد. ترى كيف نجح في تأسيس هذه العلاقة؟ أختصر الإجابة على هذا السؤال في وصف ضرار بن ضمرة للإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهما السلام لما ألح عليه معاوية في ذلك، فمن ضمن كلام ضرار قال عن علاقتهم بالإمام أمير المؤمنين عليه السلام (كان واللّه فينا كأحدنا، يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، وكنّا مع دنوّه منّا وقربنا منه لا نكلّمه لهيبته، ولا نرفع أعيننا إليه لعظمته، فإن تبسّم فعن مثل اللّؤلؤ المنظوم، يعظّم أهل الدّين ، ويحبّ المساكين) وفي هذا الوصف الكفاية في علاقتنا مع الفقيد الغالي ولا أزيد عليه، وسمعت للفقيد الغالي تسجيل بصوته يتحدث فيه عن هذا الوصف وكأنه يتحدث عن نفسه من أول كلام ضرار بن ضمرة إلى آخره. ومن يتابع حركة الفقيد الغالي في الحملة يجدها تتميز بالرسالية وهي أن يجعل الإنسان المسلم الإسلام في كل تفكيره وحركته، ولهذا جعلت حركة الفقيد الغالي من الحملة: - منبر وعي للإسلام الحركي المنفتح من خلال محاضراته وحواراته التي تبدأ بصلاة الفجر وتستمر طوال النهار ونصف من الليل إلى أن يخلد الفقيد الغالي للنوم، لا تنقطع حتى أثناء تناوله للوجبات (الإفطار ، الغداء ، العشاء ) يحلق به الحجاج أو الضيوف على المائدة وهو يحاورهم. كنا عندما نسمع المحاضرات المتنوعة لسماحة السيد "رحمه الله تعالى" وتحليل الحكمة من مناسك ومشاعر الحج خاصة وما جاء به الإسلام عامة، نشعر بأننا أمام منظّر للفكر والثقافة الإسلامية ارتقى لأن يكون حاجة ملحة لهذا العصر والزمان، وهو شعور لم ننفرد به بل يشاركنا به الكثير ممن يتابعون فكره وثقافته وخاصة خلال السنوات الثلاثون التي سبقت وفاته، وكان في بعض الأحيان عندما يطول الحوار بيننا وبينه عند الاختلاف في فكرة أو رأي ويشعر بأن الحوار سوف يتحول إلى جدال يقول لنا "أنا إنسان مثلكم، فإذا كنتم تحتفظون بحق الاختلاف معي فأعطوني هذا الحق أيضا لأختلف معكم" . - ملتقى للعاملين في الساحة الإسلامية بمختلف المستويات العمرية والقيادية، فقد كنا نرى هؤلاء العاملون يتوافدون على الحملة (المدينة المنورة، مكة المكرمة، عرفات، منى) للقاء الفقيد الغالي للاستفادة من علمه وخبرته في مجال العمل الإسلامي، وفي هذا المجال كان يولي الشباب اهتماماً خاصاً لأنه كان يراهم هم الطاقة التي تحرك أي عمل إسلامي، ولهذا كان لا يكل ولا يمل في محاوراتهم. - منطلق للمشاريع الخيرية، فالحملة كانت حلقة الوصل بين أصحاب الأيادي البيضاء وبين العديد من المشاريع الخيرية، بدأت هذه المشاريع من مبرة الإمام الخوئي الخيرية في بيروت وسحبت من ورائها بقية المشاريع التي أسسها الفقيد الغالي. -محراب للتضرع والخشوع تهدأ فيه النفس عندما يقرأ الفقيد الغالي مختلف الأدعية بعد الفرائض اليومية وكذلك دعاء كميل بن زياد ودعاء الإمام الحسين عليه السلام في عرفات، بل وحتى في قنوت الصلوات المفروضة، شخصيا حفظت منه دعاء "اللّهمّ من أمسى وأصبح وله ثقة ورجاء غيرك، فإنّي أمسيت وأصبحت وأنت ثقتي ورجائي في الأمور كلّها" منذ عام 1979 م وكان يقرأه في قنوت صلاته. ورغم حجم كل هذا النشاط والجهود التي يبذلها والتي كانت تبدأ من صلاة الفجر إلى منتصف الليل وحتى أوقات الفراغ التي تتخللها كان رحمه الله تعالى يستغلها بالقراءة والكتابة والتأليف، كان يحرص على الذهاب إلى المسجد النبوي لزيارة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين والصلاة والدعاء عندهم ويقوم بهذا يومياً بعد صلاة الفجر، وفي مكة المكرمة كان يذهب إلى الحرم المكي ليلاً بعد انتهاء برنامج الحملة، وهناك يطوف بالكعبة المشرفة وهو يقرأ دعاء كميل بن زياد الذي يحفظه عن ظهر قلب، ثم يجلس في زاوية من زوايا صحن الحرم المكي الشريف وتتحول هذه الزاوية إلى ملتقى لعدد كبير من الأحبة والأخوة الذين كانوا يتوافدون للسلام عليه وللاستزادة من فيض فكره وثقافته ونصائحه. وأمر آخر امتازت به حركة الفقيد الغالي في الحملة هو سماحة خلقه سواء مع أعضاء لجان الحملة أو مع حجاجها، حتى في الظروف الصعبة والحرجة وما أكثرها في موسم الحج، ولا شك أن هذه السماحة أعانته على الدخول في تفكير اللجان والحجاج بسلاسة ويحاورها بكل هدوء وهو صاحب المقولة "إذا أردت أن ينفتح لك عقل الآخر املك قلبه" ، فلا أتذكر أني رأيت الفقيد الغالي غاضباً يوماً حتى في المراحل الحرجة التي تمر بها الحملة أثناء أداء مناسك العمرة أو الحج ، لا أزعم إنها لم تحصل بل أقول لا أتذكرها لندرتها، بل على العكس أتذكر مواقف وقعت معه كان من الطبيعي أن يغضب بها ولكنه تسامى عن ذلك، منها أن في موسم من مواسم الحج وقع اسمه بالخطأ من قائمة ذبح الأضاحي، فأضطر أن يبقى في إحرامه إلى اليوم الثاني من العيد حتى تم ذبح الأضحية وعاد لمنى للتقصير والإحلال من الإحرام. وفى أحد مواسم الحج طلب أحد الأخوة من الفقيد الغالي رحمه الله تعالى ومن دافع خوفه من أن يتعرض الفقيد الغالي لعملية اغتيال أن يخفف من خطابه الناقد والحاد للأنظمة الإقليمية والدولية التي كانت تساعد وتدعم صدام حسين المقبور في حربه الجائرة على الجمهورية الإسلامية في ايران، فرد الفقيد الغالي رحمه الله تعالى بما مضمونه "إن الإمام الخميني أصبح وحيداً بالساحة يدافع عن الإسلام، وإن الثورة الإسلامية تكالبت عليها كل القوى لإسقاطها، ولهذا أرى من الواجب أن أدافع وبكل قوة عنها وعن قائدها"، ومن يراجع خطاب الفقيد الغالي سواء في خطب الجمع أو من خلال اللقاءات في مختلف الوسائل الاعلامية في تلك الفترة يلمس هذا الدفاع، وقد تحمل الفقيد الغالي بكل رضى نفس تكلفة موقفه هذا، فقد جرت العديد من المحاولات لاغتياله أكبرها انفجار بئر العبد الآثم الذي استهدفه، وكان ذلك في يوم الجمعة قرب مسجد الإمام الرضا عليه السلام في الضاحية الجنوبية لبيروت، وهو المسجد الذى كان يؤم الصلاة فيه قبل بناء مسجد الإمامين الحسنين عليهما السلام، وراح ضحية المجزرة عشرات الشهداء والجرحى.
السلام عليك يا فقيدنا الغالي يوم ولدت ويوم انتقلت إلى رحاب الله ويوم تبعث حياً التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقعالتعليقات «0» لاتوجد تعليقات!
|